الحرب البيولوجية والأمن القومى للدول - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:23 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحرب البيولوجية والأمن القومى للدول

نشر فى : الجمعة 3 يونيو 2022 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 3 يونيو 2022 - 8:15 م

مما لاشك فيه أن الأخطار على الساحة الدولية باتت أكثر عددا وتنوعا وتعقيدا فى ظل بيئة دولية متصارعة ومتغيرات متلاحقة متسارعة، الأمر الذى يفرض على كل دولة التحوط فيما قد يأتى به الغد من أخطار وتحديات تهدد شعبها وكيانها، فالأمن القومى هو مفهوم شامل ومعقد يتعلق بقدرة الدولة على توظيف إمكاناتها وطاقاتها وكل الوسائل لحماية الوطن والمواطنين والمواطنات من جميع الأخطار الداخلية والخارجية على كل الأصعدة، فى إطار شامل يأخذ فى اعتباره جميع المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، وبما يحقق المصلحة العليا للوطن.
وبذلك فالأمن القومى إنما يسعى فى جوهره لتحقيق الأمان والاستقرار للوطن بحيث يمكن تحقق التنمية والتقدم والنمو والبقاء لهذا الوطن وشعبه، من خلال تأمين وجوده وحدوده وسلامة أركانه والحفاظ على مقومات استمراره واستقراره وتلبية احتياجاته، وتحقيق مصالحه الحيوية، وحمايته من الأخطار القائمة والمحتملة داخليا وخارجيا على جميع الأصعدة والمستويات.
إن الأمن القومى هو مفهوم عظيم، لأنه يتعلق بهدف من أسمى الأهداف فليس هناك أعــز من الوطن وشعبه وكيانه وأرضه وبحـره وسمائه، وليس هناك ما هو أغلى من الإنسان وأمنه وحياته، وبقدر ما نشير إلى الوطن بهذا التبجيل والاحترام، فبذات القدر نشير إلى الأخطار المحيقة بالوطن بذات الانتباه والاهتمام.
وعليه فإن صياغة الأمن القومى يتعين أن تتم ارتكازا على أربعة محاور، أولها وضع استراتيجية لتنمية وتعظيم قدرة الوطن وإمكاناته حاضرا ومستقبلا، وثانيها التحذير والإدراك للتهديدات الداخلية والخارجية، وثالثها الاستعداد وبناء القدرة الوطنية على مواجهة تلك التهديدات، ورابعها إعداد الخطط والبدائل لمواجهة تلك التهديدات والتعامل معها.
• • •
وفى ظل ما يحدث فى العالم فلم يعد الأمر قاصرا على المخاطر التقليدية فى مجال الأمن القومى، فجائحة كوفيدــ19 ونطاقها الذى شمل العالم بأسره لأول مرة فى تاريخ الإنسانية، أضافت تحديا جديدا للأمن من جائحة وبائية خطيرة، تجاوزت حدود القارات والمناطق والأقاليم والدول لتجتاح العالم بأسره حاملة الموت معها حيثما حلت والفناء لمن ابتلت.
وألقت تلك الجائحة بظلال قاتمة على كل الأنشطة الإنسانية دون استثناء، مسببة خسائر اقتصادية هائلة على جميع الأصعدة والمجالات، فارضة تساؤلات جدية على قادة الدول وصناع السياسة والخبراء عن ذلك الخطر الداهم وحتمية إدراج السلامة الصحية للإنسان والأمن الصحى كبعد جديد فى منظومة الأمن القومى، بحيث يُخصص له موقع متقدم ضمن اهتماماتها.
وقد كشفت أزمة جائحة كوفيد عن حقيقة مرعبة، وهى أن أقوى وأغنى الاقتصادات وبإمكاناتها العلمية والطبية الهائلة، أمكنها بصعوبة شديدة التعامل مع جائحة وبائية على هذا النطاق الكبير والخطير، فماذا عن الدول ذات الاقتصادات الهشة والضعيفة والإمكانات والقدرات الطبية المتواضعة، أو الدول ذات الأعداد الهائلة من السكان دون قدرات وإمكانات اقتصادية وعلمية وطبية كافية لمتطلباتهم حال وقوع جائحة بهذه الخطورة أيا كان مسببها، إنه إذن الفناء المحقق لمعظم سكان بلد ما.
إن تلك الجائحة وإن كان مصدرها دولة بعينها أهمل علماؤها فى التعامل مع الفيروس فخرج عن سيطرتهم وتسرب، أو سربه خائن عميل، أو سربته دولة ما عن عمد وتخطيط، أو أطلقته دولة على دولة أخرى عمدا فى إطار الصراع بينهما، أو أيا كان ما حدث، فقد كشف عن حقيقة رهيبة هى أنه يمكن شن حرب بيولوجية صامتة باردة دون سلاح مادى، حرب لا تخلف وراءها آثار تدمير مادى فى المبانى والمنشآت، لأن المعنى بها والمستهدف منها هو الإنسان بهدف إفنائه والقضاء على حياته، لذلك فهى الموت المحتم فى حد ذاته، للإنسان والمجتمع البشرى، إذ يمكن هزيمة وكسر إرادة دول أو التحكم فيها أو تهديدها أو ابتزازها سياسيا أو اقتصاديا بالتهديد بها أو استخدامها جزئيا أو كليا.
فالسلاح البيولوجى هو أداة لاستخدام الوسائل والمسببات لنشر الأمراض والأوبئة ضد الإنسان أو النبات والكائنات عموما للقضاء عليها أو التأثير فيها بالضرر الشديد، وبالتالى السيطرة عليها وإخضاعها، وبما يؤدى إلى الهلاك أو الإفناء على نطاق واسع للكائنات فى المدن أو المناطق أو حتى دولة بأكملها باختلاف نوع السلاح البيولوجى وقوة ومدى تأثيره ونطاقه.
ولعل أخطر ما يميز الأسلحة البيولوجية هو سهولة إنتاجها مقارنة بأسلحة الدمار الشامل الأخرى التى تتطلب تكاليف وتجهيزات تكنولوجية كبرى، فالأسلحة البيولوجية يتطلب إنتاجها قدرا من المعرفة العلمية ومعمل للمايكروبيولوجى، ويمكن فعليا إنتاج كميات ضخمة من السلاح البيولوجى لأن خلية واحدة من ميكروب أو فيروس ما قادرة وتحت الظروف المناسبة على التعدد بدرجة رهيبة، مما يمكن من تكوين مخزون هائل منها فى وقت محدود، لكن الخطورة تتصاعد بمجرد البدء فى تصنيعها حيث تتطلب درجة عالية من التأمين خلال وبعد التصنيع والتخزين والنقل والتحميل.
• • •
وهذا يقودنا إلى الجانب الأهم والأخطر فى موضوع الحرب البيولوجية، فالأسلحة البيولوجية قد تعد أداة فعالة للردع ولاسيما فى الحروب غير المتكافئة، حيث يمكن لطرف يستحوذ عليها أن يحقق الردع بدرجة عالية لطرف عدو له يتمتع بقدرات أكبر، وهذا الاستخدام الدفاعى قد يكون مشروعا طالما لم يلحق الضرر بدولة أخرى، لكن الجانب المظلم من الموضوع يتعلق باحتمال لجوء دولة ما لاستخدامه للتهديد أو الابتزاز أو استغلال دولة أخرى، أو استخدامه فعلا وفى صمت على نطاق محدد ضد سكان بلد ما لإفنائهم أو تقليص أعدادهم، للاستيلاء على أراضيهم أو مواردهم الاقتصادية الغنية.
وليس الإنسان فقط هو الضحية الوحيدة للحرب البيولوجية، فقد قامت أجهزة إحدى الدول الكبرى باستخدام إمكاناتها البحثية فى تعديل الجينات الوراثية لبعض أنواع الحشرات، واستخدمتها كناقل للأمراض الفيروسية للنباتات، حيث تم إطلاق عشرات الآلاف منها على الحقول والأراضى الزراعية فى دولة جزيرة قريبة منها فأصابتها بالدمار، والشىء نفسه قد تتعرض له قطعان الثروة الحيوانية والنباتية التى يعتمد عليها الإنسان والمجتمعات فى حياته كمصدر للغذاء.
ويذكر أنه فى عام 2010 انكشف أمر أحد مختبرات الأبحاث البيولوجية السرية التابعة لوزارة دفاع دولة كبرى، وكان مكانه فى دولة أخرى بجنوب شرق آسيا، حيث كانت تجرى تجارب على فيروس إنفلونزا الطيور، الأمر الذى نتج عنه خروج الأمر عن السيطرة وتسرب الفيروس من المختبر وانتشر الوباء فى جميع أنحاء المنطقة مسببا كارثة هائلة تم التعتيم عليها.
وليس هذا وحده ما يعنينا بشأن الأمن القومى، بل إن عديدا من الشركات العالمية الكبرى فى مجال الأدوية بما لها من قدرات تكنولوجية ومالية هائلة، قد تكون من أكثر المعنيين والمستفيدين من تلك الجائحات الوبائية، إن لم يكن لبعضها دور فى تحضيرها واستغلالها، من أجل تحقيق إيرادات هائلة نظير تصدير اللقاحات والأمصال للوقاية منها، أو تصدير الدواء اللازم لعلاجها، وبالطبع ستدفع العديد من الدول المليارات نظير الحصول عليها، وسيكون ذلك استغلالا واستنزافا لثروات تلك الدول بصورة لم يسبق لها مثيل، وهو ما حدث فعلا أثناء أزمة جائحة كوفيد.
ومن المؤكد، وفق تقارير استخبارية، أن دولا عديدة تتيح مخصصات هائلة للأبحاث البيولوجية، بهدف تطوير أسلحة تعتمد على الفيروسات والجينات استنادا على وحدات متخصصة فى الحرب البيولوجية ومجالات بحوث الأمراض الوبائية، ولديها آلاف العلماء والباحثين فى هذا المجال، وإلى جانب ذلك كله يتعين ألا نغفل احتمال سعى التنظيمات الإرهابية للحصول عليها واستخدامها أو أن تتيحها لها قوى معادية تتفق مصالحها معها.
• • •
فى خضم الأزمة الأوكرانية الأخيرة، أعلنت روسيا عن اكتشاف شبكة من المعامل البيولوجية تمولها دولة كبرى بسخاء، وتمدها بالمعدات والأجهزة والخبرات لبناء قدرات للحرب البيولوجية على مرمى حجر من الحدود الروسية، وأعلنت أنه تم اكتشاف وثائق ومستندات أبحاث لاستغلال هجرات الطيور وحركة طيرانها فى نشر الأوبئة والأمراض.
ومما لاشك فيه أن الوقائع المؤكدة المذكورة والموثقة بشأن الحرب البيولوجية، والتقارير الاستخباراتية لا يمكن إلا أن تجعلنا فى غاية الانتباه والحذر من تلك الأسلحة الفتاكة التى تتعادل فى خطورتها وتأثيرها مع الأسلحة النووية والكيميائية إن لم تزد عنها خطورة ودمارا.
إننا ونحن بصدد الأمن القومى لبلادنا وفى ظل الدروس المستفادة من تلك الجائحة الوبائية العالمية، يتعين علينا القيام بمراجعة وتقييم شامل للقدرات العلمية الوطنية فى مجالات الطب والصيدلة والأبحاث المايكروبيولوجية، ومراجعة وتقييم شامل للأوضاع السكانية والسياسة السكانية، ومراجعة وتقييم شامل للاستثمارات فى العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمى، ووضع الخطط والبدائل والسيناريوهات لكل ما يمكن حدوثه بشأن أى تهديد بيولوجى لمصر، وليس بشىء مستبعد فى عالم الصراع الدولى، عندئذ لن يكون عاصما لنا سوى علمنا وعملنا وجهدنا فى الحفاظ على هذا الوطن، حفظ الله مصر وشعبها وجيشها.

أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات