تمثل سوريا حالة جيوسياسية شديدة التعقيد والصعوبة بموقعها فى قلب الشرق الأوسط بين قوتين إقليميتين، هما تركيا وإيران، وتماسها المباشر مع الكيان الصهيونى فى فلسطين المحتلة، ثم الحدود السورية المشتركة مع لبنان والأردن، والعراق وفى ظهيره دول الخليج العربى.
تكمن فى الحالة السورية أيضًا أبعاد استراتيجية وسياسية واقتصادية متشعبة باعتبارها تقع على خطوط تقاطع حركة النقل والتجارة الدولية بين دول الخليج العربى والعراق وإيران التى تمثل لهم سوريا جميعًا منفذًا استراتيجيًا مباشرًا إلى البحر المتوسط.
• • •
اليوم وفى ظل الأحداث فى سوريا، تبرز مسألة إعادة طرح مشروع خط أنابيب نقل الغاز الطبيعى بين قطر وتركيا بطول 1500 كم، والذى خطط له قبل اندلاع أحداث الربيع العربى فى سوريا، وقدرت تكاليفه الاستثمارية آنذاك بقيمة 10 مليارات دولار، لكن الحكومة السورية آنذاك رفضت مرور الخط عبر أراضيها، وأصرت على موقفها منذ 2010 حتى سقوط نظام الرئيس الأسد.
كان السبب الأول للرفض السورى لذلك المشروع هو مراعاة المصالح الاقتصادية للحليف الروسى، الذى كان آنذاك المصدر الرئيسى للغاز الطبيعى إلى أوروبا، وهى العملية التى كانت تحقق روسيا منها إيرادات وأرباحًا طائلة من صادرات الغاز إلى الأسواق الأوروبية.
لعل هذا أيضًا كان أحد الأسباب المهمة لوقوف روسيا مساندة للحكومة السورية طوال سنوات الأزمة فى سوريا، وفى ذات الوقت كان ذلك أيضًا أحد الأسباب الرئيسية لوقوف قطر وتركيا موقف المناوئ لحكم الرئيس الأسد طوال تلك الأزمة بل مساندة المعارضة السورية بالمال والسلاح فى مواجهته.
• • •
المشروع المقترح لخط أنابيب الغاز القطرى التركى، يقوم على نقل الغاز الطبيعى المستخرج من حقل بارس الجنوبى/القبة الشمالية فى قطر ونقله بالأنابيب الممتدة من قطر عبر الأراضى السعودية إلى الأردن ومنها إلى سوريا، حيث نهاية الخط فى أحد الموانئ السورية طرطوس أو بانياس، بحيث ينقل بعد ذلك بسفن ناقلات الغاز المسال إلى تركيا التى ستستخدم جزءًا منه للاستهلاك المحلى، وتعيد تصدير الجزء الأكبر إلى الأسواق الأوروبية عبر شبكة تورك ستريم.
هذا المشروع كان سيحقق وفورات اقتصادية كبرى لقطر من خلال نقل الغاز بخطوط الأنابيب إلى السوق الأوروبية بدلًا من استخدام سفن ناقلات الغاز الطبيعى باهظة التكلفة الرأسمالية والتشغيلية، فضلًا عن ضمان التدفق المنتظم من إمدادات الغاز، وتنويع مصادر الإمدادات إلى أوروبا وتقليل اعتمادها على الغاز الروسى، وفى ذات الوقت تحقيق إيرادات كبرى ومنتظمة للخزانة القطرية.
من جهة أخرى فالمشروع سيضمن لتركيا إمدادات مستقرة من الغاز، فضلًا عن بروزها على ساحة الطاقة العالمية كمركز دولى وإقليمى لإعادة تصدير وتوزيع الغاز، مع ما سيحققه ذلك من إيرادات للخزانة التركية.
• • •
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وعمليات التخريب المتعمدة التى تعرضت لها خطوط أنابيب نورد ستريم الممتدة من روسيا إلى أوروبا، وإعلان الدول الأوروبية مقاطعتها للنفط والغاز الروسى، ثم اتخاذها تدابير تعويضية للحصول على إمدادات من الغاز المُسال من قطر والجزائر والولايات المتحدة، واستيراد شحنات من الغاز عبر خطوط الأنابيب الممتدة من النرويج إلى أوروبا.
فى ظل هذه المتغيرات شديدة التعقيد، يجرى الحديث عن إعادة طرح مشروع خط أنابيب الغاز القطرى التركى، خاصة أن دولة قطر لديها خطط طموحة لزيادة طاقاتها الإنتاجية من الغاز المسال لتصل إلى 142 مليون طن/سنة بحلول عام 2030.
يترافق مع ذلك خطط تسويقية طموحة من الحكومة القطرية لتنويع أسواق صادرات الغاز التى تتركز حاليا فى الأسواق الآسيوية التى تستورد 70% من صادرات الغاز القطرية، بينما تستورد أوروبا 20% فقط من تلك الصادرات، لذلك تسعى الحكومة القطرية لتوقيع عقود توريد غاز طويلة الأمد مع الدول الأوروبية لتدفق صادراتها وإيراداتها من الغاز، وتأمين مركزها كأحد كبار مصدرى الغاز فى العالم.
الدول الأوروبية من جانبها قد تدعم المضى قدمًا فى هذا المشروع، باعتباره سيضمن لها تدفق مستقر من إمدادات الغاز القطرى، كما قد يحقق لها وفورات اقتصادية فى تكاليف استيراد ونقل الغاز بالأنابيب مقارنة بنقله بسفن ناقلات الغاز الطبيعى المسال وتكاليف ومخاطر الرحلات البحرية.
من المعتقد لدى الكثيرين أن الحكومتين السعودية والأردنية لن تبديا تحفظًا على المشروع، ولاسيما الحكومة الأردنية التى ستعد الخط أحد مصادر الدخل للخزانة الأردنية، وكذلك مصدر للغاز للسوق الأردنية.
الموانئ البحرية السورية، والتى تعتبر نقطة محورية فى هذا المشروع، يفترض أنها أيضًا ستحقق للحكومة السورية الجديدة عوائد اقتصادية تتمثل فى قيمة حق الانتفاع مقابل مرور خطوط الأنابيب والغاز عبر أراضيها، وكذلك الاستثمارات المتوقع تدفقها لمد خطوط الأنابيب ومحطات الضخ والاستقبال والتسييل والتصدير، ورسوم الموانئ المحصلة من سفن ناقلات الغاز التى ستنقله من سوريا إلى تركيا.
أما نظام الحكم الجديد فى سوريا فمن المتصور قيامه بالترحيب بهذا المشروع، كونه مدينًا بالكثير لقطر وتركيا داعمتيه الرئيسيتين فى اعتلاء سدة الحكم فى سوريا، وفى ذات الوقت حاجة سوريا إلى تدفق الاستثمارات وإعادة بناء الاقتصاد السورى المنهار، وكون نظام الحكم الجديد سيسعى للظهور بمظهر من يعيد بناء سوريا بعد سنوات الصراع الطويل.
• • •
رغم كل ما سبق، فالمشروع قد يواجه تحديات لتدبير الاستثمارات الكبرى اللازمة، لا سيما أن قطر من جهتها قد تعاقدت بالفعل على بناء عدد كبير من سفن ناقلات الغاز الطبيعى المسال من أحدث الطرازات ودفعت فى مقابلها مبالغ رأسمالية هائلة.
من جهتها، تفضل الدول الأوروبية بعد أزمة الغاز الروسى تخصيص الاستثمارات الضخمة لمشروعات الطاقة المتجددة، ومشروعات إنتاج الهيدروجين والميثانول والأمونيا كوقود بديل عن النفط والغاز.
أما التحديات السياسية والأمنية للمشروع المقترح فتبدو هى الأخطر، فى ظل المرحلة الانتقالية الحالية فى سوريا، والتى لم تتضح معالمها بعد، لا سيما أن هناك قضايا شائكة متعددة تقتضى المعالجة، وقد تكون لها تداعيات سياسية وأمنية خطيرة مثل المسألة الكردية ومسألة فصائل المعارضة المسلحة، ومسألة تقاسم السلطة فى دمشق.
• • •
أخيرًا وليس آخرًا، فمثل تلك المشروعات من المؤكد أن تكون لها انعكاساتها على حركة النقل الدولى وسلاسل الإمداد وأسواق النفط والغاز فى منطقة الشرق الأوسط، ثم آثارها وتداعياتها المتوقعة على قناة السويس.
أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات