أعداد كبيرة من النساء والرجال بأعمار مختلفة وكثير من الأطفال أيضا اصطفوا فى انتظار دخول الطائرة وهم فى مجملهم يبدون كأى ركاب متجهين إلى أى بقعة أو مدينة فى العالم. لا مظاهر لخوف أو توجس أو حتى مجرد تساؤل عن كيف ستكون بيروت ساعة وصول رحلتهم وهم يراقبون ليل بيروت ونهاراتها الحافلة بالأحداث وليس كلها أو بعضها مريحا! معظمهم محملون بعلب الشوكولاتة والحلويات والسجائر وغيرها من أسواق ذاك المطار الخليجى. هى لحظات ويعلن عن الإقلاع فيدفعك فضولك للبحث سريعا عن مكان شاغر أو كرسى لم يمتلئ فلا تجد، هى رحلة مكتملة الركاب كما قال لك ذاك الشاب اللطيف عند تسجيلك لدخول الطائرة.
• • •
مضى الوقت سريعا وأعلن قائد الطائرة عن البدء فى النزول بمطار بيروت. حتى عند إعلانه يتحرك الركاب وكلهم لبنانيون ولم يبحثوا من خلف شباك الطائرة عن كل تلك الأحداث التى عصفت ببلدهم لأكثر من عام، ثم ما لبثت أن استباحت لبنان ولم تترك عاصمته وحدها بل استمرت حرب إبادتهم وطاردت طائراتهم كل المبانى؛ شقة شقة وشارعا شارعا وزقاقا زقاقا.
• • •
بعد خروجنا من المطار بعد منتصف الليل بقليل كانت بيروت ــ مدينة الحب والفرح ــ معتمة وتبدو حزينة، ومع كثرة الأسئلة اختصر السائق الإجابات بالقول انتظرى قليلا فهناك أكثر من بيروت وأكثر من لبنان! هنا العتمة ورائحة الموت والفقدان وبعد النفق ستجدين بيروت أخرى فالمطاعم والمقاهى والبارات مكتظة وتضج بروادها وكثير منهم أتى ليطمئن على لبنان ويشارك أهله الأعياد. وحده اللبنانى يعرف كيف يتجاور الحزن مع الفرح والموت مع الحياة. وحده يقف يرفع الأنقاض بعد سقوط القذيفة ويعيد ترميم محله، متجره، بيته، مطعمه أو فرنه بل ويقوم بوضع زينة الأعياد ويضع إعلانا ترويجيا مغريا للزبائن.
• • •
فى كل حرب عاشها لبنان تكثر الأسئلة لدى المتابعين ومعظمهم محبون لهذا البلد وشعبه وتصعب الإجابات. الكهرباء موجودة وإن لم توجد فقد اعتاد اللبنانى على الاستعانة بـ«الموتور» أى المولد الكهربائى سواء بنفس العمارة التى يسكنها يعوض ساعات انقطاع كهرباء الدولة كما يسمونها، أو حتى الاشتراك فى مولّد الحى الذى يسكن فيه. وعكس كثير من التوقعات أو الاحتمالات أو التصورات فبيروت بل كل لبنان يبقى ينفض غبار حرب هنا واقتتال هناك واعتداءات إسرائيلية مستمرة لم تتوقف منذ أن احتلت فلسطين وأصبح الصهيونى يسكن عند خاصرته الجنوبية. لا شئ يشبه ما تقرؤه فى الكتب عن البشر بعد الحروب ولا أى عالم نفس يستطيع أن يفسر معنى أن يحب اللبنانى والفلسطينى الحياة كما قال محمود درويش بل ربما عادها وصرخ بها: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا، ونرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا، نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا، ونسرق من دودة القز خيطا لنبنى سماء لنا ونسيج هذا الرحيلا، ونفتح باب الحديقة كى يخرج الياسمين إلى الطرقات نهارا جميلا، نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.
• • •
فى اليوم التالى كان الوقت لتحسس بيروت التى هى ككل لبنان أكثر من بيروت وأكثر من لبنان واحد هنا، صوت نحيب لمن فقد أهله كل عائلته وهناك قصص وحكايات بمساحة وطن كلها عن من جاءته القذيفة أو سلاح الموت المتطور هو وعائلته كلها وهم على مائدة الطعام فرحلوا جميعا، ولم يسمح الطيران الإسرائيلى الذى استباح سماء لبنان وأرضه بل كل سماء وأرض عربية، لم يسمح بانتشال الجثث ودفنها أليس كرامة الإنسان الميت فى دفنه؟
• • •
هناك بيروت تبحث عما تبقى من أحبتها، وبيروت أخرى أو لبنان آخر يعيش الحياة أو يسرق منها ما تبقى خوفا من القادم. كل اللبنانيين يكررون إنها اللحظة، نعرف ما حدث ولا نستطيع تصور القادم، فها هو الصهيونى يقترب من حدود وطنهم كلها ولم يعد يستبيح الجنوب وكأنه قطعة بعيدة جدا.
• • •
هنا نحيب وهناك موسيقى وغناء وضجيج وصخب الأعياد والمغتربين يملئون المطاعم والمحلات، يقاومون هم ببعض ما يدخرونه فى غربتهم، يقاومون موت مدينتهم أو طنهم. ويعيد كل لبنانى القول «إحنا مرينا بحروب كثيرة» وكأنهم يطمئنون أنفسهم قبلك أنت الزائر الذى يحمل الأسئلة وفى معظمها البحث عن كيف ينبش اللبنانى الأمل بين أنقاض بيته وكيف يفتح دكانه أو كما يسمونها “مصلحتها”، ورائحة بارود قصف الليلة الماضية لا تزال عالقة فى الهواء فيما يحمل بائع الكعك خبزه الطازج ويدور راشا بعضا من الزعتر والسماق واذا أحببت يضيف قطعة من الجبن ويمضى.
• • •
بعضنا أو كثير منا بحاجة لأن يتعلم من اللبنانى والسورى والفلسطينى كيف يجد الأمل أو الابتسامة أو حتى لحظة للفرح وهو خارج من المقبرة أو بعد أن يرمم بيته ويعود ليزينه بشجرة أعياد الميلاد أو زينة أعياد طوائفه كلها، أو وهو يمسك بثمرة من الطماطم قطفها للتو من حديقة بيته الذى نصفه مهدم. كيف يدعونى ذاك الصديق إلى مشاركته وعائلته وجبة فى بيتهم بالبقاع ونصف أهله و«ضيعته» قد محيت من على الأرض خلال حرب الإبادة المستمرة؟ وكيف تكثر الدعوات من الأصدقاء والمعارف لمشاركتهم غداء الميلاد المجيد؟ كيف يعرف اللبنانى أن يعيش فيما نحن فى معظمنا نتذمر من الحياة إذا نفدت القهوة التى نحب من الأسواق؟
كاتبة بحرينية