‎ليس حجرا بل قصة وذاكرة - خولة مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 11 فبراير 2025 3:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

‎ليس حجرا بل قصة وذاكرة

نشر فى : الأحد 9 فبراير 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الأحد 9 فبراير 2025 - 7:05 م

‎كلما بدأ حديث عن العمارة راح يسترسل فيما يشبه الشعر، فكل ما كان يلفظ به لا علاقة له بالأسمنت والأسقف وغيرها من مقومات البناء. لم تطل المسافة بين ذاك اليوم من شعر صادر عن مهندس معمارى وبين لقاء أكثر قربا لنعرف أنه من تلامذة حسن فتحى. هنا صرخنا «وجدتها» بل «وجدناها» فقد انشغلت تلك الثلة الصغيرة بالبحث عن إجابة لسؤال علق على إطراق أدمغتهم منذ ذاك اللقاء «كيف يكون المهندس المعمارى شاعرا». تلك التلمذة على يد سيد المعماريين العرب حسن فتحى إجابة على كل الأسئلة رغم أن بعضها بقى عالقا لبعض الوقت.

• • •

‎ذاك اللقاء شرع النوافذ على مصراع الأسئلة، بل والأبواب وكل الزوايا المظلمة. انغمس بعضنا فى نبش ما خلف الجدران والأسطح والبيوت والمدن بحثا عن الحياة التى تسكنها. فالحياة ليست حكرا على البشر كما يتصور الكثيرون وهم يزلزلون الأرض تحت أقدامهم فوق مساحات من العشب أو الأزهار أو أن يقوم أحدهم بهدم منزل هنا أو بقايا جدار لسبب وحيد فى رأسه أنه قد أصبح قديما وعلى كل ما هو عتيق أن يرسل إلى أقرب مقبرة!!!

• • •

‎لم يكن طريق البحث صعبا رغم أن الزمن قد سبق مرحلة صديقنا جوجل وغيره من محركات البحث. كانت المكتبات، وهى الأخرى فضل بعضهم أو معظمهم من مدعى الحداثة إعدامها أو رميها فى أقرب سلة مهملات أو حتى حرق الكتب، وبعضهم باع ورقها ليستخدم فى لف ساندوتشات الفلافل والشاورما أو الخبز فى المحلات الشعبية جدا. هناك بين اكتظاظ الكتب والدراسات والمجلات المتخصصة كان مفهوما أن للأمكنة ذاكرة قد تبلور، وهناك أيضا اكتشفنا أن المدن القادمة بهدف «تطوير وتحديث» حياة المواطنين ونقلهم من أحياء شعبية قديمة ومكتظة، كلها ضمن - ربما - سياسة طمس الذاكرة، حتى وإن كان الكثير من القائمين على هذه المشاريع لا يدركون ذلك.

• • •

‎بعدها استهوانى البحث فيما هو خلف المشاريع المعمارية وتاريخ المدن ومنهم مدينتى التى نشأت وكبرت ولعبت «السكينة» فى أزقتها الضيقة أمام منزلنا القديم.. منزل العائلة حيث عشنا أكثر من ثلاث أطفال فى نفس البيت بحوشه الداخلى الواسع ودهليزه والمرجيحة، التى يسميها أهل البحرين «دورفه».. مشرعة هى الذاكرة لذاكرة الأمكنة، وخاصة الأكثر حميمية منها. لم تكن حمى المدن والمجمعات «الكمبوندات» قد بدأت فى الانتشار، ولكنها ما لبثت وأن أصبحت أكثر انتشارا من الفطريات. فجأة قُطعت أشجار النخيل، وهو أمر ليس خاصا بهذا البلد أو ذاك، فقد قطعوا كثيرا من الشجر ودفنوا البحر أيضا لتلك المدن القادمة من رحم «المدنية» و«التحضر» المرافق للعولمة.

• • •

‎إن تتوسع المدن لازدياد الكثافة السكانية هو أمر طبيعى وعادى جدا وهذا ليس بخاص لمدننا العربية، ولكن أن يكون هناك خلف بعض ذاك التوسع طمسا لذاكرة المكان التى هى نحن بتفاصيل تاريخنا الشفهى ربما، فهذا أمر آخر. فقد دفنت مدن قديمة بجدرانها وشوارعها وترابها وحجرها وكل القصص التى خزنتها تلك الحيطان التى تبدو صماء، فيما هى لو نطقت لحكت قصصا وحكايات من الحب والحياة والضحك والفرح وكثيرا من البساطة فى حياة كانت تشبه الماء فى نقائه.

• • •

‎استيقظت هذه الجزئية من الذكريات المندسة بين ضفاف العقل، عند تساقط أسئلة تلك الشابة الباحثة والتى تعمل على إنهاء مشروع الدكتوراه فى إحدى الجامعات العريقة فى بريطانيا وموضوعها المدن الإسكانية. طرحت بعض الأسئلة بعد أن سمعت أو عرفت أننا منذ أكثر من عقدين كنا قد بدأنا فى عمل حول سيرة المدن التى كانت، والنبش خلف تلك المرسومة فوق الورق واحدة خلف الأخرى، وكلما قصوا شريط الأولى جرى الجرى للثانية لتكون أكبر وأكثر امتدادا وتفاصيل أخرى ربما هى لدى أصحاب نظريات المؤامرة تبعد المقرب وتجعل الجميع، أى كل قاطنى هذه المدن الحداثية، مجرد سكان وليسوا بجيران!! استفاضت فى محاولة التعريف بمشروعها، وكيف أنها ترى أن التوسع العمرانى هو أمر مرتبط بالسياسة الكلية فى أى بلد وهو ليس مجرد محاولة لإيجاد مساكن نتيجة لارتفاع معدلات الولادة، وبذلك تحدث الكثافة السكانية اكتظاظا بالمدن القديمة فتشكل عبئا على كل بنيتها التحتية المنهارة أصلا. تقول هناك بُعد سياسى لكل تلك المدن أو هكذا تبحث.

• • •

‎اللقاء انتهى والحديث لم ينته، وكأنها فتحت صندوقا من الأسئلة التى خرجت كالديدان كل منها ترسل تفاصيل لما يجرى هنا أو هناك وتتزاحم كلها لتنتهى إلى نفس النقطة أن للأماكن ذاكرة، وهى أكثر حياة من كل الحياة نفسها، وهناك ربما من يعمل بغير قصد على دفن الحجر وكل خربشات الذكريات عليه وإطفاء صوت قادم من تحت الغبار يقول كنا هنا حيث الولادات المؤشرة على حياة قادمة بنفس عدد الوفيات التى تذكر بحياة كانت فلا تهجرون الأمكنة ولا تجعلوا منها مجرد ذكريات أو حتى تحولوا  كل المدن الحديثة إلى شكل أو نمط معمارى واحد لا يملك أى ذاكرة فهى، أى المدن الحديثة، كلها متشابهة متطابقة حد الملل، وكلها لا يسكنها إلا كثير من الأشباح معتقدين أنهم يعيشون حياة أفضل!! 

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات