رَحلت سلطة سورية مستبدة ومجرمة بحق أبناء وبنات وطنها وخائنة لمقدراته إلى غير عودة. لم يكن لبلد بحجم سوريا وأهميتها فى العالم العربى أن تحكمه أسرة فى ظل نظام اختاره مواطنوها جمهوريًا. ولم يكن لخيارات رئيس أن يأخذ شعب سوريا إلى التشرذم والعوز بدل أن يوحده ويحميه، وأن يُضعف مؤسسات دولته كى ينهار جيشه بين ليلة وضحاها.
استفاق الشعب السورى من كابوس مديد وفرِحوا بحرية تعبير افتقدوها طويلًا، بل لم يعرفها أغلب سوريى اليوم. وفُتحت أبواب السجون الذين قبع فى أقبيتها الكثيرون دون أيّة محاكمة عادلة واختفى أثر أعداد من المفقودين.
إلا أن الطريق لاستعادة الشعب السورى لوحدته وسيادته ودولته وأسس اقتصاده ومعيشته.. بات يتطلب جهدًا استثنائيًا، مع الكلفة الكبيرة والرهيبة لذلك الرحيل.
• • •
بداية لا بدّ من توضيح أنه لا معنى للقول بأن تجربة إدلب الناجحة، إداريًا واقتصاديًا، يُمكن استنساخها على كل الأراضى السورية. صحيح أنها كانت أكثر نجاعة من تجربة «الحكومة المؤقتة» فى عينتاب. لكن ذلك كان نتيجة أن إدارة إدلب لم تكن تتحمل عبء النازحين والفقراء الذين كانت المنظمات الغربية والدولية والجمعيات المحلية هى التى تحمل على كاهلها إغاثتهم. فمن سيحمل اليوم على كاهله عبء واقع أن أكثر من 80% من الشعب السورى يرزحون تحت خط الفقر فى ظل شح المساعدات الدولية والحاجة الكبيرة لإعادة الإعمار وانتعاش الدورة الاقتصادية؟
أضِف أن «الاقتصاد الحر» الذى تمتعت به إدلب لسنوات استفاد من إعفاءات صريحة أو ضمنية من العقوبات على سوريا سمح بإنشاء شركات اقتصادية فى مجالات أساسية، مثل موارد الطاقة والكهرباء والهاتف والإنترنت لم تشكّل نموذجًا يُعتدّ به للمنافسة الحرة والشفافية. صحيح أنها أمّنت خدمات أساسية للمقيمين أفضل من بقية المناطق لكن ليس بنفس القدر للنازحين وللمخيمات. وأمام السوريين تحديات كبرى اليوم فيما يخصّ الشركات الاقتصادية الأساسية التى كانت مرتبطة بآل الأسد وتمثل موارد ريعهم، مثل شركات الهاتف الخلوى، وكذلك الشركات المماثلة التى نشأت فى إدلب. الاقتصاد الحر التنافسى لا يُمكن أن يقوم ويستمر مع استمرار مؤسسات ريعية دون أن يتحول الريع لخدمة ميزانية دولة جميع المواطنين. كما أن التحدى الكبير اليوم هو تأمين النفط والغاز والكهرباء على مستوى سوريا ككل.
كذلك تعود النجاعة النسبية للإدارة فى إدلب إلى الترابط الوثيق بين الإدارى والأمنى والاجتماعى على عكس حالة «الحكومة المؤقتة» فى عينتاب وفصائل شمال حلب. ثم إن مجتمع إدلب محافِظ أكثر وأقل تعددية عن غيره من المناطق السورية، خاصة المدن الكبرى كحلب ودمشق وحمص، فما بالنا بالساحل أو الشمال الشرقى؟! بل يُمكن القول أن مجتمع إدلب ازداد طابعه المحافظ نتيجة الأحداث والتقسيم الذى عاشته سوريا، ويحتاج زمنًا كى تتفتح أساريره من جديد مع انفتاح التواصل مع بقية المناطق السورية، خاصة إذا ما توقفت المقولة الإعلامية أنه هو الذى انتصر على «النظام البائد»، وليست نضالات جميع السوريين وتضحياتهم.
صحيح أن المنظومة المسلحة التى هيمنت على الوضع تتصرف اليوم بلباقة لم يعرفها الشعب السورى طويلًا حيال حريات المجتمع وخصوصياته، لكنها ليست بعد جيشًا موحدًا حياديًا لكل سوريا والشعب السورى. وهناك العديد من الفصائل الأخرى الأكثر تشددا، كما هناك تحديات وتعديات كثيرة يُمكن أن تفاقِم الشروخات الاجتماعية والمناطقية. وقد خلقت تصريحات بعض أعضاء حكومة تسيير الأعمال لأشهر ثلاث ردات فعل مجتمعية كبيرة، خاصة أن المساواة الكاملة فى المواطنة وأن «الدين لله والوطن للجميع» كانا وسيبقيان الأساسيين الوحيدين اللذين يمكن لسوريا ودولتها القيام عليهما.
• • •
هكذا لم يكن قرار تعليق الدستور خطوة موفقة، إذ يُلغى عن سوريا صفة دولة قانون بالحد الأدنى. لقد كان يكفى وضع بضعة مبادئ فوق دستورية تصون الحريات والمساواة. كما لم يكن الحديث عن لجنة صياغة دستور جديد من خبراء لم يُعلن عن أسمائهم وكيف تم اختيارهم خطوة مطمئنة، بل العكس. خاصة أن التصريحات الحالية تعيد إلى أسس القوانين التى ستصدُر مستقبلًا مسائل البتّ فى حريات أساسية، ومن بينها حرية المرأة ومساواتها مع الرجل.
هناك أيضًا دعوة لـ«حوار وطنى» ليست أطرافه واضحة ومآلاته غائمة، خاصة أنه يتم الحديث أن الهدف الكبير هو الوصول إلى صياغة عقد اجتماعى بين الدولة والطوائف ومكونات المجتمع. هذا فى حين يُفترض أن العقد الاجتماعى هو بين مواطنين متساويين فى الحقوق والواجبات، وهو الذى يؤسس لماهية الدولة والمؤسسات التى تنظم علاقتهم وطرق إدارة شئونهم. وهذا أعطى انطباعًا أن المقصود هو عقد بين سلطة وأطياف فى المجتمع ويذكّر بحوار صحارى الوطنى فى يونيو 2011 الذى لم يُفض إلى إيقاف الانزلاق نحو الحرب الأهلية.
• • •
ليست مهمة القائمين على الحكم حاليا فى سوريا سهلة.. رغم أنهم أعلنوا أن سوريا لن تشكل خطرًا على أى من دول المنطقة (!) أو الدول العظمى. فالتحديات ضخمة على الصعيد الداخلى، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. خاصة أن المجتمع بدأ يستفيق من نشوة سقوط سلطة الأسد ويستشعر التحديات والمخاطر.
لقد اكتسب الأفراد والمجتمع حرية التعبير. ومهما كان الزخم الإعلامى لبعض القنوات، بدأت التناقضات تتضِح. وبدأ المجتمع يتحرّك على جميع الأصعدة. وهنا لن تكون كافية التطمينات الملتبِسة والمتناقضة، ولا الحوار الوطنى الذى لا أفق له. ولا بد من خطوات أكثر مصداقية مثل الذهاب سريعا لحكومة «ذات مصداقية تشمل الجميع ولا تقوم على الطائفيّة»، كما فى روحية قرار مجلس الأمن 2254. كما يُمكِن تفعيل إدارة المجالس المحليّة بدل المحافظ لإعطاء مرونة فى تحسين أوضاع المواطنين والمواطنات انطلاقًا من معطيات واقع اليوم، وكذلك إعادة تفعيل جهاز الشرطة لحفظ الأمن، خاصة مع ما تفرضه عودة كثير من النازحين والنازحات داخليًا إلى بلداتهم. النازحون وليس اللاجئون الذين لن يعودوا طوعيًا قبل درجة من واقع استقرار الأوضاع.
إذ إن هناك أيضًا ملف شمال شرق سوريا الذى تفجر اليوم وكذلك اللعب الإسرائيلى تجاه مناطق الجنوب واحتلالها لأراضٍ جديدة. هذا عدا أنّ القائمين على السلطة ما زالوا على قوائم الإرهاب العالمية، وأن العقوبات الاقتصادية على سوريا مستمرة حتى لو لم يتم التمديد لقانون قيصر. بالتأكيد ستطلب الدول التى وضعت العقوبات مقابلًا لرفع عقوباتها.
فى مواجهة جميع هذه التحديات، لا بدّ من الإسراع بالخطوات الضرورية، خاصة أننا فى مرحلة مؤقتة بانتظار وصول إدارة دونالد ترامب إلى سدّة الحكم فى الولايات المتحدة فى يناير المقبل. ما يعنى احتمال تقلبات كبرى أخرى فى المشهد الإقليمى المحيط، وبالتالى فى سوريا.
على السوريين والسوريات اليوم الاستفادة من مساحة حرية التعبير لبناء حراك اجتماعى جامع ومؤثّر للحفاظ على بلدهم ومجتمعهم ودولتهم.. وعلى القائمين على السلطة اليوم التواضع.