كتبت منذ سنوات، وآخرها منذ شهور، عن بشاعة عمليات استخراج الألماس وتجارته فى أفريقيا. نقلت وقتها عن صحفى غربى زار منجما للألماس انطباعاته.
كتب يقول: «رأيت عمالا فى ثياب رثة وأطفالا عيونهم غائرة وبطونهم منتفخة من الجوع، كلهم مقوسة ظهورهم بحثا عن قطع الألماس فى الوحل، وفوق رءوسهم جنود الشركة أو عساكر الحكومة أسلحتهم مشهرة، وعند المغيب يقوم هؤلاء الجنود بتفتيش كل عامل وطفل بحثا عن أحجار ألماس يكون قد دسها فى فمه أو فى مكان آخر فى جسده. وفى الليل يهاجمون القرى القريبة ليخطفوا عددا من الأطفال للعمل فى اليوم التالى فى المنجم».
وفى مكان آخر كتبت عن الفيلم الذى قام بدور البطل فيه ليوناردو ديكابريو، الذى سبق وبرز فى فيلم تيتانيك، وكان عنوان الفيلم «ألماس الصراع»، ونقلت ما جاء على لسان أحد أبطال الفيلم عندما، قال: «نحن فى الغرب نقتل ونسرق شعوب أفريقيا، ولكننا فى الوقت نفسه نبشر ضد القتل وضد السرقة».
تذكرت مأساة «الألماس الملوث بالدم» حسب التعبير، الذى استخدمه التقرير الشهير، الذى أصدرته الأمم المتحدة عن تجارة الألماس. وهو التقرير الذى أثبت دور الألماس فى إشعال الحروب الأهلية وخطف الأطفال وتمويل بعض حروب الشرق الأوسط.
**********
تذكرت هذه المأساة وأنا أقرأ رسالة من صحفى زار إقليم جرقهند الواقع فى شرق الهند على بعد 1200 كليومتر من العاصمة دلهى. تقول الرسالة إن أطفالا يعملون طيلة 12 ساعة كل يوم بحثا عن الميكا Mica. يحكى الصحفى أنه شاهد فتيات صغيرات نحيلات يعملن ثلاثات أو خمسات فى قيظ الهند الشديد أو رطوبتها الخانقة فى حفرة محيطها يتراوح بين متر ونصف المتر وثلاثة أمتار، وكثيرا ما تهبط بهن هذه الحفر، وبالفعل سمع أن إحداهن دفنت قبل أيام حين شفطها تجويف مفاجئ فى أرضية الحفرة.
وقال فى رسالته إن العاملات، صغيرات أم كبيرات، يدفعن إتاوة دورية للوسطاء، الذين يقومون بتوظيفهن، وإلا فقدن العمل، وهؤلاء بدورهم يدفعون رشوة للشرطة لتغمض عيونها عن خرق الوسطاء للقانون بتشغيلهم أطفالا.
وفى السر يشكو الأطفال من ظروف العمل القاسية والمقابل المادى التافه، الذى يحصلون عليه، إذ يتقاضى الطفل وأمه ما يعادل دولارا أمريكيا فى اليوم.
ولا يجد الأطفال من يعالجهم من سم الثعابين، التى تموج بها الحفر التى يستحضرون من باطنها الميكا، أو الملاريا التى تعصف بهم بسبب قذارة المكان وعدم وجود تسهيلات صحية من أى نوع. وتضيف الرسالة أن كثيرا من الأطفال يسقطون إعياء تحت ضربات الشمس والإنهاك والجوع، وتتكسر عظامهم لتكدسهم فى حُفر ضيقة. وقبل حلول الليل يأتى إلى مواقع العمل الوكلاء، الذين يجمعون ما جمع الأطفال خلال اليوم من أحجار الميكا وينقلونها فى زكائب إلى المدن القريبة، حيث يعيش التجار الذين يقومون بتصديرها إلى الخارج.
لم أكن أعرف أن الميكا سبب هذا العذاب وكل المعاناة، التى يتعرض لها الأطفال فى هذا الإقليم الهندى تدخل كمكون أساسى فى صناعة أحمر الشفاه وظلال العيون، إذ تضيف الميكا إلى مستحضرات التجميل لمعة لا غنى عنها.
وعند سماعى هذه المعلومة قفزت إلى ذهنى على الفور القصص الرهيبة عن عذابات الأطفال العاملين فى استخراج الألماس من المناجم أو من أحواض الأنهار والمستنقعات فى غرب أفريقيا وجنوبها، واستحضرت ذاكرتى أيضا الجهود، التى قامت بها منظمات غير حكومية أثمرت قرارات فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ونشاطا دوليا أسفرت عن تخفيف معاناة العمال وتشديد الرقابة على عملية تجنيد الأطفال..
أثمرت أيضا تحميل الشركات الكبرى والمتحدة لاستخراج الألماس وتجارته مسئولية اجتماعية أمام الحكومات والرأى العام العالمى. وها نحن نرى تشارلز تايلور الرئيس السابق لجمهورية ليبريا يقف فى قفص الاتهام أمام محكمة لاهاى متهما بارتكاب جرائم بشعة وإشعال حروب أهلية فى سيراليون وغيرها من أجل الألماس.
وعند سؤال مدير الشركة الألمانية، التى تستورد الميكا وتعدها لإعادة تصديرها إلى أسواق متخصصة فى صناعة مستحضرات التجميل عن حقيقة ما يحدث فى جرقهند قال إنه سمع عن مشكلة الأطفال العاملين فى استخراج الميكا، وكان يعتقد أن هؤلاء الأطفال إنما يذهبون إلى حقول الميكا ليلعبوا بين أهاليهم، الذين تتعاقد معهم الشركة.
وأضاف إن شركته تدعم ماليا مدرستين فى المنطقة لتشجيع الأطفال على تلقى العلم، دليلا على أنها لا تشجع تشغيل الأطفال. وعندما سئل مدير شركة Merck الشهيرة فى صناعة أحمر الشفاه قال إن دراسة اشتركت فى إعدادها الحكومة الألمانية أثبتت أن الأطفال يعملون فعلا فى ظروف قاسية لاستخراج الميكا، ولكن فى إطار عائلى!، حيث تصطحب العائلات أطفالها إلى مواقع الحفر خشية تركهم فى القرى بدون رقيب.
يشقى الأطفال وتسيل دماؤهم وتنحل أجسادهم لتنعم امرأة فى مكان ما ببريق يتلألأ من حجر ألماس ولمعان على شفاه ازدادت حمرة ولمعانا بفضل ذرات الميكا.