أعرف أننى تأخرت كثيرا فى الكتابة عن أمر كان لا يحتمل التأخير بالمرة. ألوان البلطجة التى تشهدها أقسام الطوارئ والاستقبال والعيادات الخارجية فى مستشفياتنا هذه الأيام. لكن ما يرفع عنى الحرج هو تلك الجهود التى يبذلها نقيب الأطباء والتى يشاركه فيها الكثيرون. تصرفات بالطبع همجية وصادمة ربما كانت الدهشة الممزوجة بالمرارة وراء رفضى الحديث عنها. لكن أن يصل الأمر إلى الاعتداء على طبيبة أثناء تأدية عملها بضربها وتمزيق ملابسها وسحلها على الأرض كما نشرت وسائل الإعلام فهو أمر يجب معه اللجوء لمحكمة العدل الدولية إذ إنه بلاشك ليست هناك جهة واحدة مسئولة فى بلادنا يمكنها أن تعاقب مجرما سحل مهنة إنساية وداس بقدم ثقيلة على هيبتها!
بالصدفة كنت أطالع كتابا للكاتب الموهوب بلال فضل «ست الحاجة مصر». الكتاب مجموعة مقالات منها ما يتحدث فيه عن الفاضلة والدته وتجربته معها رحمها الله فى مستشفيات مصر ومنها معهد الأورام.
«وقبل أن تسألنى»: «يا نهار أسود.. هو انتوا رحتوا معهد الأورام ليه بس؟! دعنى أقل لك هذه الديباجة الحتمية: كل المستشفيات كئيبة وان حسنت خدمتها وغلبت أسعارها ونضفت أروقتها. لكن مستشفيات الفقراء فى بلادنا ليست كئيبة. بل حقيرة! الكآبة يمكن احتمالها أما الحقارة فلا يجوز احتمالها!
تتوالى اعترافات بلال فضل: سعادته بانهيار معهد الأورام حتى لو كانت سعادته غير مفهومة وغير مبررة وغير إنسانية من وجهة نظر أصدقائه. وصفه للمستشفى «أبشع المعانى الممكنة لكلمة أورام حيث الكل يبدو متحالفا بإخلاص من أجل تجسيدها: تجهم وعصبية وانعدام مهنية وروائح مقبضة وحمامات غير صحية وجفاء وغلظة وتدين منقوص حيث تشعر أن هناك شعارا غير منطوق يسوء فى المكان «احمدوا ربنا انكم لقيتوا سرير».. يا الله.. إذا كانت تلك الصورة التى سجلها إنسان واعٍ بأحوال بلاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فأى صورة يمكن ان يصفها إنسان محدود الثقافة محدود الدخل مجهض الأحلام.
الواقع أننى وإن تأثرت بوصف بلال فضل إلا اننى أرى أن قتامة الصورة تأتى من انفعاله بألم والدته ومرضها. لم يكن ملائما على وجه الإطلاق وصف المستشفيات الحكومية بالحقيرة. أنا أعمل فى أحدها (معهد القلب القومى) أعرف كل ما يعوق العمل بها لكنى أراها بعين الحقيقة ما يماثل المعجزات بإمكانات هزيلة تتيحها الدولة. لا أقبل على وجه الإطلاق أن يكون ذلك الشعور الذى دفع بلال فضل للفرح بانهيار معهد الأورام والذى اعترف بأن أصدقاءه تعجبوا له دافعا لأن يعتدى بلطجى على طبيب أثناء تأدية عمله وأن يحطم آلات وأدوات تستخدم للمنفعة العامة.
المشكلة متعددة الأوجه منها ما يعد مسئولية الدولة فى ضرورة تطوير الطوارئ والاستقبال والعيادات الخارجية فيما يخص كفاءة الأطباء وما يختص بتوفير وسائل الإسعاف وأدوات التشخيص ومنها ما يتعلق بضرورة إعادة سلوك الإنسان المصرى إلى قواعد تبدأ بضرورة احترام القانون. الأمر الذى لا يقبل مناقشة هو ضرورة تأمين المستشفيات وأن يحمى على وجه الإطلاق دخول الأهالى إلى أقسام الاستقبال والطوارئ والعيادات الخارجية مع المريض. أن تقابل أعمال البلطجة فى المستشفيات بحزم من الشرطة وان تسن لها أحكام رادعة لا تراجع فيها ولا عفو عن مرتكبيها وأن يبدأ هذا الآن إلى أن تتوافر لنا حلول حقيقية معها قد ترضى «ست الحاجة مصر» ويتراجع بلال فضل عن أحلامه بنسف مستشفيات الحكومة.