لكل شىء أصل، لا بد من التساؤل عن أصول هذا التحول نحو التطرف والعنف داخل الإسلام بالشكل الذى نراه اليوم. لقد شغل عدد من المستشرقين أنفسهم كثيرا بالبحث عن جذور العنف والتشدد داخل الدين نفسه، وذلك من أجل إدانته فى مقابل المسيحية التى لخصوها بجرة قلم واحدة فى كونها ديانة التسامح، رغم أن هذا ليس صحيحا، وإلا لما كان هناك عصر تنوير فى أوروبا وانقلاب على الكنيسة، ولما كتب لوك رسالته الشهيرة فى التسامح، التى كانت إنجيل الأنوار. فتراث التنوير فى حد ذاته يدين المسيحية كما كانت مطبقة.
لكن فى الجانب المسلم، اكتفى العلماء بأمرين: الرد على «مطاعن» المستشرقين بكثير من العاطفة المجردة عن العلم، عدا محاولات قليلة، للإنصاف، والتنقيب فى «فقه الاستبداد» للرد على السلطة. ولكون السلطة هى العقدة الرئيسية التى واجهها المسلمون فى تاريخهم، خصوصا منذ سقوط الخلافة، غفلوا عن البحث فى «فقه العنف» الناتج عن تفسيرات و«تبريرات» النص الدينى، متناسين أنه إذا كان هناك فقه استبداد فى الأعلى، فلأن ذلك الفقه يتحرك بحرية فى الأسفل، وسط المجتمع، فى التعليم النظامى وغير النظامى، وفى التراث الفقهى والدينى الذى يتم تناقله بين الأجيال، كابرا عن كابر.
ولذلك ليس مفيدا اليوم بعد خراب مالطا ــ كما يقال ــ الاكتفاء بالتذكير بأن الإسلام دين تسامح واعتدال، طالما أن ذلك التراث لايزال يتحرك بحرية ويمكن لأى جماعة اقتناصه وتبنيه، باسم الدين. لقد كان رواد الإصلاح الإسلامى فى بداية القرن الماضى واعين لهذه الحقيقة، ولذلك ركز معظمهم على التربية والتعليم، من خلال إصلاح المناهج فى الأزهر والقرويين والزيتونة، ولكن هؤلاء حوربوا من طرف العلماء التقليديين الذين أرادوا الحفاظ على القديم لأنه «من الدين». أراد هؤلاء أن ينجزوا تقريبا ما أنجزه مفكرو التنوير فى أوروبا عندما وضعوا «الموسوعة» فى عصر ديدرو ودالامبير، للقطع مع مناهج ومعارف متهالكة يمجها العقل وروح العصر.
بيد أن هذه الرغبة لم تمت فى صدور العلماء الذين كانوا يرون فى الأفق رياحا خريفية قادمة. وقد حاول البعض التصدى لما شاب التراث الدينى والفقهى من قضايا كانوا يرون أن لا علاقة لها بالإنسان والحضارة، وبالضرورة لا علاقة لها بروح الإسلام، من أجل تهذيب هذا التراث وتطهيره من الغلو، لكنهم جوبهوا بحرب شرسة شنت عليهم من مختلف الجهات. والمفارقة التى يمكن أن نراها اليوم بعين أخرى أن واحدة من هذه الجهات كانت هى السلطة فى العالم العربى، التى تبحث اليوم عن مخرج من هذه الدائرة الجهنمية، وصل مداها إلى انتقاد المدونة الفقهية والعقدية التى تقوم عليها الدولة نفسها فى بلد عربى كبير. وعندما أعلن محمد الغزالى فى مصر موقفه الصريح من أجزاء من هذا التراث قامت ضده موجة تشهير واتهم بالكفر والزندقة، ومات واقفا وهو يتكلم نتيجة الحسرة.
لهذا كله، يجب أن تكون هناك جرأة صريحة للقول بأن الذين كانوا يتصدون للتجديد باسم الحفاظ على تراث الأجداد دون تمييز، هم الذين مهدوا السبيل للتطرف الدينى ولظهور السلفية الجهادية اليوم، من غير أن يدركوا بأنهم يؤسسون لمحاكم التفتيش باسم ذلك التراث، كما اعتقل المفتش الكبير المسيح باسم المسيح نفسه.