لطالما اكتسى التوجه التركى نحو إسرائيل مسحة تهافتية. ففى سياق مساعيها الحثيثة للالتحاف بالحماية الغربية لصد الأطماع السوفيتية فى مضيقى البوسفور والدردنيل وشىء من اسطنبول عقب الحرب الكونية الثانية، غدت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بالدولة العبرية عام 1949، قربانا منها لانتزاع عضوية كانت مستعصية بالحلف الأطلسى، تمنحها مظلة استراتيجية رادعة للتهديدات الستالينية المروعة.
وفى عام 1974، وبعدما فرضت واشنطن حظرها التسليحى على أنقرة جراء غزوها جزيرة قبرص، واحتلال شطرها الشمالى، لاذ الأتراك بإسرائيل استجداءً للدعم التسليحى وتوسلا للتكنولوجيا العسكرية المتطورة. أما اليوم، وعلى خلفية العقوبات الاقتصادية والعسكرية المتزامنة التى فرضها الأوربيون والأمريكيون على أنقرة بجريرة انتهاكاتها المتواصلة بشرق المتوسط، وإصرارها على اقتناء منظومات «إس 400» الصاروخية الروسية، يأتى التهافت الإردوغانى على إسرائيل تزلفا للغرب، بغية رأب الصدع الذى ضرب علاقته بأنقرة، حتى فاقم عزلتها المقيتة.
تتوالى تأكيدات مسئولين أتراك بانطلاق المحادثات مع إسرائيل، بوساطة أذرية، توخيا لتحقيق انفراجة وشيكة فى العلاقات التركية الإسرائيلية، خصوصا بعدما أفادت تقارير بزيارة رئيس الاستخبارات التركية لإسرائيل فى نوفمبر الماضى، فيما عدلت أنقرة عن رفضها اتفاقات التطبيع الإسرائيلية العربية التى أقلع قطارها قبل أربعة أشهر بغير توقف، وتقدمت مجموعة شركات «يلدريم» التركية لمناقصة بالمشاركة فى تشغيل ميناء حيفا الإسرائيلى، بينما أعلنت مصادر غربية تعيين أنقرة سفيرا لدى تل أبيب منهية بذلك جفاءً دبلوماسيا يحاصر البلدين منذ مايو 2018. وبإعلان المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن من بروكسل استعداد بلاده الالتزام بوقف دعمها جماعة الإخوان وحركة حماس، توقع مسئولون إسرائيليون استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين أنقرة وتل أبيب بحلول مارس المقبل.
بتهافته اللافت على إسرائيل، يتطلع إردوغان لبلوغ عديد مآرب. فاقتصاديا، وبينما يكابد اقتصاده انتكاسة مفزعة، على خلفية سوء الإدارة، والفساد، وتداعيات جائحة كورونا، والعقوبات الغربية، وهروب رءوس الأموال الوطنية، ووقف تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتقلص الشركاء التجاريين حول العالم، تأبق أنقرة إلى الشريك الاسرائيلى، الذى احتفظ معها بعلاقات تجارية تتجاوز قيمتها 6.2 مليار دولار عام 2020، برغم الكابوس الوبائى وظلمات شبه القطيعة الدبلوماسية، ما يشى بإمكانية التحليق بتلك العلاقات التجارية فى آفاق أرحب حالة تخطى البلدين للتوترات العابرة، بما يساعد على حلحلة أجواء الركود الاقتصادى والانسداد السياسى التى تقض مضاجع الأتراك منذ سنوات.
مع تتابع اتفاقات التطبيع والتعاون النوعى متعدد الأبعاد، التى أبرمتها إسرائيل مع أربع دول عربية فى غضون أشهر معدودات، ولا يزال الحبل على الجرار، بالتزامن مع استمرار التدهور فى علاقات أنقرة بمحيطها وتنامى عزلتها الإقليمية والدولية، بات تودد إردوغان لإسرائيل ضروريا لعبور ذلك النفق المظلم، خصوصا بعدما ارتأى فى التطبيع الإسرائيلى الإماراتى نواة لجبهة مناهضة بشرق المتوسط، إذ لم تتورع الدولتان عن رفض المزاعم والخروقات التركية فى مياهه، بينما أجرت مقاتلات إماراتية من طراز «إف ــ16» مناورات مشتركة مع اليونان بجزيرة كريت، عقب تدريبات بحرية أجرتها تركيا ببحر إيجه، فى الوقت الذى أعلنت إسرائيل تضامنها مع اليونان وقبرص، باعتبارهما شريكين استراتيجيين.
تحت وطأة الحظر الذى فرضته واشنطن وكندا وتسع دول أوربية على تصدير السلاح والتكنولوجيا العسكرية لتركيا، لجأت الأخيرة إلى إسرائيل، أسوة بما فعلت عام 1974، مراهنة على خبراتها واتصالاتها المميزة من أجل تحديث وصيانة بعض أنظمة التسليح التركية، فضلا عن تلبية احتياجات أنقرة المتفاقمة من المنظومات التسليحية المتقدمة، علاوة على استنهاض صناعتها الدفاعية التى تدر عليها ثلاثة مليارات دولار سنويا، وتوفر الآلاف من فرص العمل، كما تساعد على توطين التكنولوجيا العسكرية النوعية، سيما أن جذور التعاون الاستخباراتى والعسكرى بين أنقرة وتل أبيب تعود إلى منتصف القرن الفائت، موثقة بمعاهدات ثنائية ومحدثة باتفاقيتين أخريين عام 1996، تضمنتا بروتوكولات تتعلق بتبادل الوفود العسكرية لأغراض التدريب واكتساب المهارات، والتنسيق فى الموانى البحرية، والسماح للطائرات والسفن الإسرائيلية بالتدريب فى الأجواء والمياه التركية، والتعاون فى مجالات مكافحة الإرهاب وأمن الحدود، والتنسيق الاستخباراتى، وتبادل المعلومات.
ابتغاءً لتعزيز أمن الطاقة التركى، مضى إردوغان لتقوية موقف بلاده الهش فى مواجهة الاصطفاف الإقليمى والدولى خلف قبرص واليونان ضد أنقرة فى شرق البحر المتوسط، والذى تكلل باستبعادها من منظمة غاز شرق المتوسط، متطلعا إلى تمكين أنقرة من توسيع مناطقها الاقتصادية البحرية المتوسطية، علاوة على اقتناص دور بالمشاريع التى تتشاركها إسرائيل مع دول متوسطية لنقل الغاز إلى أوربا. وتوخيا لهذين المقصدين، عرض إردوغان على إسرائيل ترسيم حدودهما البحرية بما يتيح دمجها على حساب قبرص اليونانية، التى لا تعترف بها تركيا كدولة، وتطالب بنصف المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة المقسمة نيابة عما تسميه جمهورية شمال قبرص التركية، بحيث تغدو المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا وإسرائيل ممرا لخط أنابيب الغاز المزمع تمديده من إسرائيل إلى أوربا عبر تركيا، والذى تراه أنقرة أفضل وأرخص مقارنة بمشروع «إيست ميد» الذى اتفقت إسرائيل مع قبرص واليونان على إقامته.
أما وقد نجح المخطط الأمريكى الإسرائيلى لجعل تل أبيب بوابة عبور إجبارية إلى واشنطن ومفتاحا لمرضاتها، هرعت تركيا تعيد الدفء لعلاقاتها مع تل أبيب طمعا فى الاستفادة من النفوذ المتعاظم للوبى الصهيونى فى أوربا وأمريكا، بغية تهدئة التوترات مع الحلفاء الغربيين، وتعليق عقوباتهم الموجعة إلى غير رجعة، مع فتح الأبواب لإعادة تدفق الاستثمارات الخارجية بوصفها عماد الانطلاقة الاقتصادية لتركيا، التى أفضى نجاحها فى جذب 220 مليار دولار منها خلال الفترة من 2004 حتى 2011، إلى تحقيق اقتصادها قفزات هائلة وضعته بالمرتبة الخامسة عشر عالميا قبل أن يتدهور ويتقهقر إلى الثانية والعشرين حاليا.
لا تفتأ إسرائيل تعلق انفتاحها على تركيا مجددا بوقف الأخيرة دعمها لتنظيمات راديكالية متأسلمة، كجماعة الإخوان المسلمين، التى يحسبها إردوغان نموذجا للاسلام المعتدل، وحركة حماس، التى يظنها حركة مقاومة وطنية مشروعة، وفصيل سياسى منتخب ديمقراطيا، مطالبا بضرورة إشراكه فى مفاوضات التسوية. ومن ثم، تأخر الرد الإسرائيلى الرسمى على مبادرة الرئيس التركى لإنعاش العلاقات بين البلدين، حتى تتخلى أنقرة أولا عن دعمها لتلك التنظيمات المتطرفة، التى ما برح إردوغان يمنح قياداتها الجنسية التركية، ويوفر لها منصة آمنة تخولها مباشرة جميع أنشطتها المشبوهة، برغم تعهد تركيا، خلال اتفاق المصالحة الذى أبرمته مع إسرائيل عام 2016، بالعمل على «كبح جماح الممارسات الحمساوية المستفزة».
وحرصا منها على شراكتها الاستراتيجية مع قبرص واليونان، رفضت إسرائيل إصرار تركيا على وضع علاقتها معها مقابل تلك الشراكة، ومن ثم تحفظت على عرض أنقرة ترسيم حدودهما البحرية بشرق المتوسط، تجنبا للمساس بحقوق قبرص، التى أقرت الأمم المتحدة والاتحاد الأوربى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينهما، وزميلتها بمنظمة غاز شرق المتوسط، وشريكتها، إلى جانب اليونان وإيطاليا، فى مشروع أنابيب «إيست ميد» لنقل الغاز إلى أوروبا، وثالثة ثلاثة مع إسرائيل واليونان تعاهدوا على تعزيز التعاون العسكرى والتنسيق الأمنى لترسيخ دعائم الاستقرار فى إقليم شرق المتوسط، من خلال برامج التدريب المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الأمن السيبرانى فيما بينهم.
عطفا على ما ذكر من منغصات تعكر صفو العلاقات التركية الإسرائيلية، ولم تنقصها القضيتان الفلسطينية والكردية، برأسه يطل غياب الكيمياء السياسية بين نتنياهو وإردوغان، بما يجعل التوتر التركى الإسرائيلى الراهن، فى أحد أبرز جوانبه، كما لو كان تخريجا طبيعيا لحالة التنافر المزاجى وانعدام التناغم السياسى بين النخبتين الحاكمتين فى أنقرة وتل أبيب، بما ترتكنان عليه من مرجعيات سياسية وخلفيات فكرية، أسهمت إلى حد كبير، فى تشكيل انطباعات كل منهما عن الأخرى، وتحديد معالم سياساتهما على الصعيدين الداخلى والخارجى طيلة العقدين المنقضيين، وهو الأمر الذى تمظهرت تجلياته فى تضارب رؤاهما وحساباتهما الاستراتيجية إزاء قضايا وملفات حساسة طالما كانت موضع توافق بين بلديهما فيما مضى. مثلما تبدت فى رهنهما تحسن علاقاتهما بخروج إردوغان أو نتنياهو، أو كلاهما، من مشهد سياسى ضاق عليهما بما رحب.
وبينما لم تتورع دوائر أمنية إسرائيلية عن اعتبار تركيا دولة «شبه معادية»، فيما صنفها الجيش الإسرائيلى العام الماضى، وللمرة الأولى، على أنها «تحدٍ»، فى حين يعدها مدير «الموساد» أشد تهديدا وخطرا من إيران، التى أرهقها الوهن والتشرذم، فى الوقت الذى ما برحت تركيا تحتفظ بالكثير من ركائز القوة، ولا ترعوى عن إغضاب حلفائها الغربيين عبر الارتماء فى أحضان إيران والمنظمات الجهادية المتطرفة، حذت تل أبيب حذو عواصم عربية وعالمية شتى، فى الاعتقاد بأن فرصة إقامة علاقات أفضل مع أنقرة قد لا تتأتى إلا بعد أفول الحقبة الإردوغانية فى السياسة التركية.