فى يوم مشمس على غير العادة فى شتاء سويسرا، توجهت صبيحة 28 يناير الماضى إلى مقر مركز جنيف للسياسات الأمنية (GCSP) لحضور جلسة حوارية حول تطورات الشرق الأوسط ومقاربة مصر لها، كان المتحدث الرئيسى الدكتور بدر عبد العاطى، وزير الخارجية. قبيل وصوله، كانت القاعة قد امتلأت واضطر العديد من الحضور للوقوف خارجها، فى مشهد يعكس الاهتمام الكبير بالحدث. ضم الحضور عددًا من السفراء المندوبين الدائمين لدى منظمات الأمم المتحدة فى جنيف، إلى جانب نخبة من الخبراء العاملين فى المنظمات الدولية والأكاديميين والصحفيين المعنيين بشئون الشرق الأوسط.
جاء هذا الحشد الدبلوماسى والأكاديمى الرفيع للاستماع إلى رؤية مصر بشأن التحديات الخطيرة التى تعصف بالشرق الأوسط، وهى الرؤية التى عرضها الوزير عبد العاطى خلال كلمته التى امتدت لنحو 30 دقيقة، أعقبها نقاش مفتوح استمر قرابة 45 دقيقة. لم تكن كلمته مجرد استعراض للمواقف الرسمية، بل قدم خلالها تحليلًا معمقًا لمجمل الأوضاع فى الشرق الأوسط والتحديات التى تواجه النظام الدولى، متناولًا الأزمات الإقليمية من منظور مصرى واضح.
لم يكن حديث عبدالعاطى مجرد استعراض تقليدى للمواقف، بل تحليلًا دقيقًا لجذور الأزمات فى المنطقة، بدءًا من ملف غزة، حيث لعبت مصر (مع قطر والولايات المتحدة) دور الوسيط الحاسم، ليس فقط فى وقف إطلاق النار، بل فى ضمان عدم إعادة إنتاج الأزمة بصيغتها المتكررة. وكانت رسالته واضحة لا لبس فيها: الحل السياسى هو الطريق الوحيد القادر على إنقاذ المنطقة من دوامة العنف، وأن أى تأجيل للحل النهائى لصالح ترتيبات مؤقتة لن يؤدى إلا إلى تعميق الأزمة.
• • •
أما فى سوريا، فقد بدا واضحًا أن مصر تتمسك بموقفها الثابت: الحفاظ على وحدة الدولة السورية، ومنع انزلاقها إلى سيناريوهات التقسيم أو الاحتراب الداخلى طويل الأمد. ولعل هذا الموقف يعكس توجهًا مصريًا عامًا تجاه الأزمات الإقليمية، وهو الرفض القاطع لتفكيك الدول تحت أى مسمى، وهو موقف يبدو متماسكًا، لكنه يواجه تحديات كبرى فى ظل تضارب المصالح الإقليمية والدولية فى الملف السورى.
لم يكن التطرق إلى تأثير الاضطرابات فى البحر الأحمر على الاقتصاد المصرى مجرد تفصيل فرعى، فأكد وزير الخارجية على أن أى تهديد للممرات الملاحية يعنى تهديدًا مباشرًا لاستقرار الدول. الرسالة هنا كانت واضحة: ما دامت الحرب فى غزة قد توقفت فيجب على الحوثيين التوقف الفورى عن مهاجمة السفن العابرة فى البحر الأحمر. مشيرا إلى أنه لا يمكن الاستمرار فى النظر إلى هذه التحديات من منظور أمنى فقط، بل يجب البحث عن حلول دبلوماسية مستدامة للأوضاع فى اليمن الشقيق الذى يشبه فى جغراقيته الوعرة أفغانستان.
• • •
لكن أكثر ما شد الانتباه فى حديث عبد العاطى هو انتقاده الحاد لسياسة «المعايير المزدوجة» فى النظام الدولى، وهى مسألة لم تعد مجرد ترف أكاديمى، بل أزمة تؤثر بشكل مباشر على مصداقية المؤسسات الدولية وقدرتها على تحقيق العدالة. عندما يكون الالتزام بالقانون الدولى انتقائيًا، وعندما تُطبَّق القوانين وفقًا للمصالح وليس المبادئ، فإن النتيجة الطبيعية هى فقدان الثقة فى هذه المنظومة برمتها.
اللافت فى حديث وزير الخارجية لم يكن فقط الطرح العقلانى لرؤية مصر، ولكن الإصرار على أن إصلاح النظام متعدد الأطراف ليس مجرد مطلب ترفيهى، بل ضرورة لضمان استقرار العلاقات الدولية. إصلاح مجلس الأمن، إعادة هيكلة النظام المالى الدولى، ضمان عدالة النظام التجارى العالمى - كلها ملفات باتت القاهرة تتعامل معها كأولويات، لا مجرد شعارات تُردد فى المحافل الدولية.