بعدما عكف الرئيس التركى إردوغان طيلة السنوات الأولى لانفراده وحزبه بالحكم فى بلاده على الاعتصام بخطاب ليبرالى يروج للتصالح بين الإسلام والحداثة والعلمانية، كما تفانى فى إظهار تشبثه بالديمقراطية والإمعان فى التعلق بتلابيب حقوق الإنسان، تزلفا لليبراليين الأتراك، وتوسلا لترسيخ دعائم هيمنته على السلطة، واستجداءً لدعم حلفائه الغربيين فى مواجهة مكائد التحالف المعادى الذى يضم غلاة العلمانيين والعسكريين والقوميين المتطرفين، إذا بالرجل، الذى أضحى بمرور الوقت أقوى رئيس عرفته تركيا منذ عهد أتاتورك، يتنصل تدريجيا من نهج الديمقراطية الوظيفية الإضطرارى، الذى أملته حسابات المخاتلة السياسية، بداية باندلاع ما عرف إعلاميا بـ«الربيع العربى» مطلع العام 2011، مرورا بالمحاولة الانقلابية المصطنعة فى يوليو 2016، وصولا إلى جائحة كورونا، ومن ثم لم يجد غضاضة فى العصف بالحريات، والتحالف مع حزب الحركة القومية، لتغدو التجربة الديمقراطية التركية القلقة محاصرة بين رمضاء حكم الفرد الاستبدادى، ونيران التحالف المريب بين يمين دينى راديكالى الهوى وقومية طورانية لم تبرأ من أسقام التطرف والاستعلاء.
لما كانت الجاذبية التى يتمتع بها ما كان يعرف بـ«النموذج التركى» تتأسس على ادعاء بتحقيقه المعادلة الصعبة المتمثلة فى الجمع ما بين الإسلام الحداثى الليبرالى المعتدل من جهة وكل من الديمقراطية والتنمية من جهة أخرى، فقد باتت صدقية ذلك النموذج على المحك فى ظل التداعى المتزامن للأسس التى ارتكن عليها، إثر جنوح إردوغان للإخلال بهذه المعادلة عبر الانزلاق إلى غيابات التطرف بتعاونه مع تنظيمات جهادية تكفيرية على غرار «داعش» و«جبهة النصرة»، بالتوازى مع توظيف الدين فى التسويق لعثمانيته الجديدة، فى الوقت الذى تتسارع وتيرة تراجع الأداء الاقتصادى مع ذوبان وعود الزعيم الزائفة بتحول تركيا إلى مصنع العالم بدلا من الصين عقب انقشاع غمة كورونا، بينما تتعرض التجربة الديمقراطية القلقة لانتكاسة مروعة، بشهادة القاصى والدانى، خصوصا بعدما أفضى اعتماد النظام الرئاسى عام 2018 إلى حصرالسلطة فى قبضة زعيم أوحد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
أما خارجيا، فما عاد إردوغان يعول كثيرا على الدعم الغربى، كما أضحى فى غير حاجة لإظهار فائض حماس لتسويق الحلم الأوربى، الذى يطارده الأتراك منذ العام 1959، فبعدما أفلت من الحملات الضارية التى عكفت على التنديد بالهوية الإسلامية لحزب العدالة، والتحذير من توجهات إردوغان العثمانية، كما تسنى له الاستئثار بالحكم وإعادة هيكلة الجيش والمنظومة الأمنية لضمان ولائها واستتباعها، أودى التخبط الأوربى فى التعاطى مع جائحة كورونا بكثير من الألق الذى كان يغذى جاذبية الاتحاد الأوروبى فى عيون الأتراك.
غير مكترث بفشله فى التصدى لها، مضى إردوغان فى استغلال الجائحة، مبتغيا استعاده توازنه السياسى المتهاوى، وتحسين الموقف الميدانى الحرج لميليشياته ومرتزقته فى سوريا وليبيا، علاوة على تقويض مساعى المعارضة الرامية إلى تقوية موقفها الانتخابى والتغلب على إشكالية إيجاد البديل السياسى الملائم لإردوغان وحزبه. ومن ثم، لم يتردد فى تسييس جهود مكافحة الوباء، حينما استثنى خصومه من المعارضين السياسيين وسجناء الرأى ورؤساء المدن الكردية المنتخبين من قانون العفو العام عن السجناء، كما أجهض حملات المعارضة لجمع التبرعات، مخافة أن يؤدى نجاحها إلى تنامى رصيدها الشعبى على حساب حزب العدالة ورئيسه. أما البرلمان الذى بح صوت نواب معارضته شاكين تجاهل الرئيس وحكومته لاستجواباتهم البرلمانية، فلم يكد يمضى يومان على إقراره للقوانين التى حمله على تمريرها تحت وطأة كورونا، حتى أقدم إردوغان على تعليق جلساته لمدة 45 يوما، كما قاطع احتفالات مئوية تأسيسه، ما دفع المعارضة لاتهام الرئيس بتعطيل عمل السلطة التشريعية وإهانتها. وما إن تراءى للجميع تقاعسه عن تقديم الخدمات الطبية وإجراء الفحوصات الفيروسية لسكان المناطق الكردية، حتى أبدت الأمم المتحدة تفهمها لاتهام قيادات كردية نظام إردوغان بالإمعان فى مباشرة سياساته التمييزية والاستبدادية حيال الأكراد حتى فى زمن الوباء.
وبينما أخفقت تداعيات جائحة كورونا فى حمل إردوغان على التراجع عن توريط بلاده فى مغامرات عسكرية مكلفة وغير مشروعة بسوريا والعراق وليبيا، أو إخلاء القواعد العسكرية التى أنشأها فى قطر والصومال والعراق، جاءت جائحة كورونا لتضييق الخناق على صناعة الدفاع التركية الناشئة، التى يعول عليه إردوغان لتعزيز استقلالية سياسته الخارجية، وتكريس الشعور القومى، واستقطاب حلفاء وشركاء جدد حول العالم. فعلاوة على فرض دول أوروبية حظرا على تصدير السلاح لتركيا بجريرة غزوها للشمال السورى فى أكتوبر الماضى، قام الكونجرس بتعليق تسليم أنقرة مقاتلات «إف 35» التى تشارك فى برنامج تصنيعها، كما جمدت شركات التصنيع العسكرى الأمريكية بيع مثيلاتها التركية مكونات متطورة تستخدمها الأخيرة فى تصنيع أسلحة وطائرات تركية يتم تسويقها لدول عالم ثالثية، ردا على إتمام إردوغان صفقة منظومات إس 400 الصاروخية الروسية، والتى تراجع عن تشغيلها بالموعد الذى كان مقررا الشهر الفائت متذرعا بأزمة كورونا مما أثار استياء وتهكم معارضيه.
وبالتزامن مع إعلان شركات التصنيع العسكرى التركية فى مارس الماضى تعليق أنشطتها فى إطار تدابيرها الاحترازية لمواجهة تفشى فيروس (كوفيدــ19)، كانت رقعة الانتقادات الدولية للدرونز تركية الصنع من طراز «بيرقدار» وغيرها، تتسع على نحو مقلق. فبموازاة إدانة استخدام إردوغان لها فى ملاحقة وتصفية معارضيه وخصومه السياسيين بالمناطق الكردية، وقتلها أعدادا هائلة من المدنيين واستهدافها الأعيان المدنية الحيوية فى ليبيا وسوريا، سلط موقع «نورديك مونيتور» فى مايو الماضى، الضوء على طائفة من العيوب الفنية القاتلة التى تعتريها، من قبيل هشاشة هيكلها وسهولة إسقاطها عبر أنظمة دفاع جوى متواضعة للغاية، علاوة على عجزها عن مقاومة التشويش الإلكترونى، وارتباك أنظمة الاتصال، وضعف القدرات الهجومية، وانعدام القدرة على المناورة، ومحدودية وزن الذخائر التى يمكنها حملها.
كان من شأن تلك الانتهاكات، التى يظنها إردوغان ضرورية لتمرير مشروعه الخاص بتأبيد هيمنته المطلقة على السلطة وترسيخ دعائم عثمانيته الجديدة داخليا وخارجيا، أن تنخر فيما تبقى له من رصيد الثقة لدى مريديه. إذ كشف استطلاع للرأى، أجرته شركة البحوث والاستشارات الاستراتيجية أواسط الشهر الماضى على 76 ولاية من بين 81 ولاية تركية، عن عدم ثقة 37.2 % من المشاركين بالنظام الحاكم، الذى لم تتوان أحزاب المعارضة كما قطاعات جماهيرية واسعة عن تكييل الانتقادات له، جراء تسخيره الجائحة لخدمة مآربه السلطوية رغم فشله فى احتوائها، إثر افتقاده لاستراتيجية علمية متكاملة، وتبنيه سياسة التعتيم والخداع بشأن أعداد المصابين والوفيات، حتى غدت تركيا الدولة الأولى شرق أوسطيا والسابعة عالميا لجهة الإصابات وسرعة الانتشار. كذلك، كشف استطلاع أحدث أجرته شركة «أوراسيا» للأبحاث، فى 36 ولاية قبيل نهاية الشهر ذاته، عن انخفاض نسبة مؤيدى أردوغان وتحالف «الجمهور» المكون من حزبى العدالة والحركة القومية، إلى 34% فقط، حيث أكد 52.2% أنهم لن يصوتوا لإردوغان، بينما علق 11 % آخرون سلوكهم التصويتى إلى حين ظهور مرشحين رئاسيين جدد، كما أظهرت النتائج أيضا ارتفاع نسبة رضاء المشاركين عن أداء البلديات التى يديرها «تحالف الأمة» المكون من حزبى الشعب الجمهورى والخير المعارضين، فى أزمة كورونا، إلى 59.8%، مقابل 54.7% لصالح البلديات التابعة لتحالف «الجمهور». بموازاة ذلك، تعالت الأصوات المطالبة بإنهاء العمل بالنظام الرئاسى الذى كرس سلطات إردوغان الاستبدادية، ففى حين أظهرت نتائج استطلاع للرأى أجرى فى فبراير الماضى، تأييد 63% من الأتراك لعودة النظام البرلمانى، أطلق داود أوغلو رئيس حزب «المستقبل» المعارض حملةً لتنسيق جهود الأحزاب الممثلة بالبرلمان لإقرار نظام برلمانى قوى.
وتحت وطأة ذلك التراجع المروع فى شعبيته، عاود إردوغان التفكير فى ملاذه الآمن، القديم الجديد، المتمثل فى اللجوء إلى الانتخابات المبكرة، تلافيا لمزيد من التدهور فى وضعه الانتخابى المهترئ، واستثمارا لبعض تحركاته الخارجية الاستعراضية على شاكلة تقديم المساعدات الطبية الخاصة بمكافحة وباء كورونا، لدول طالما كانت داعمة لمشاريعه ومآربه التى تتلاقى بطبيعتها مع مصالحها ومخططاتها كإسرائيل والولايات المتحدة، فضلا عن استجداء العون من مؤسسات وشركات دعاية أمريكية أغدق عليها ملايين الدولارات طمعا فى تبييض صورته المشوهة عالميا.
لعلها إذن أزمة ثقة بالأساس، فلطالما رهنت نظريات التنمية التى عرفها علم النظم السياسية المقارنة خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وما واكبها وتلاها من أطروحات لباحثين ومفكرين من أمثال جبرائيل ألموند وسيدنى فربا وروبرت هاردجريف وغيرهم، شرعية أى نظام سياسى بثقة الناس فى قدرته على تقديم جميع الخدمات لمواطنى الدولة قاطبة على كامل ترابها، دونما تمييز، وإلا واجه أزمة شرعية ضاغطة، حسبما طرح مايكل هدسون. وفى مقاله الأخير بصحيفة «وول ستريت جورنال» منتصف أبريل الماضى، اعتبر هنرى كيسنجر، أن المعيار الحقيقى لكفاءة الأنظمة الحاكمة بمواجهة جائحة كورونا، يكمن فى مدى نجاعة تلك الأنظمة فى الاحتفاظ بثقة المواطنين من خلال تفعيل قدرتها على إدارة الأزمة بحرفية واقتدار، بدءًا باستشرافها، مرورا بوقف انتشار فيروس (كوفيدــ19)، وصولا إلى احتواء تداعياتها وإعادة الأمور إلى طبيعتها، بالسرعة والكلفة والطريقة، التى تكفل جميعها استبقاء وتعزيز تلك الثقة.
فى السياق نفسه، أعاد فرنسيس فوكوياما، اكتشاف نظريته حول«الثقة» التى أصل لها مطلع القرن الحالى فى كتابه الذى حمل ذات العنوان، حيث نشر مقالا نهاية مارس الماضى على موقع «ذى أتلانتيك»، علق خلاله نجاح أى دولة فى التصدى لجائحة كورونا، على مقدار ثقة مواطنيها فى كفاءة استجابتها للتحدى، حسب نظرية أرنولد توينبى الشهيرة. وهى الثقة التى ترتكز، فى نظر فوكوياما، على ركيزتين: أولاهما، ضرورة تيقن المواطنين من امتلاك حكومتهم الخبرة والمعرفة التقنية والقدرة والنزاهة لانتهاج أفضل الخيارات المتاحة، مع توفيرعدد كافٍ من الكوادر والطواقم عالية التدريب فائقة المهارات من المسئولين الحكوميين التنفيذيين ورجال الإطفاء والشرطة والعاملين بالقطاع الصحى، بما يؤهلهم للقيام بالمهام الموكلة إليهم على الوجه الأكمل. أما ثانيتهما، فتتجلى فى الثقة بكفاءة وقدرة التسلسل الهرمى للسطة، لاسيما الرئيس وحكومته، على الاستخدام الأمثل لجميع الموارد المتاحة من أجل إدارة حكيمة وناجزة للأزمات.
غير بعيد عما ذكر آنفا، يبدو أن سقوط إردوغان فى شرك تغليب مشروعه الشخصى الهادف لاحتكارالسلطة توطئة لإطلاق العنان لعثمانيته الجديدة، قد حرضه على إهدار فائض القوة، الذى ساقته إليه الأقدار بعدما خولته جنى ثمار إنجازات تنموية أرسى دعائمها أسلافه، من أمثال تورجوت أوزال. فها هو السلطان العثمانى الجديد لا يرعوى عن تبديد شطر هذا الفائض فى مغامراته العسكرية الخارجية الفاشلة، وصفقات التسلح المرهقة التى لم تعزز قدرات بلاده الدفاعية بقدر ما تستفز خصومها، وتضر بتحالفاتها الأطلسية كما تستنفر معارضى إردوغان وتجمع شمل الناقمين على سياساته، بينما يستنفد الشطر الآخر فى مساعيه الحثيثة لاستنساخ النموذج الإيرانى، من حيث ثيوقراطية الحكم فى الداخل واللهث العبثى وراء نفوذ خارجى مستعصى، مستعينا فى ذلك بالمرتزقة ومراهنا على اصطناع أذرع عسكرية واستئجار وكلاء مؤدلجين.
لربما فاق التنامى المتسارع فى فائض القوة التركى خلال العشرية الممتدة من عامى 2003 إلى 2013، قدرة العقل الإردوغانى على استيعابه وحسن إدارته، مما دفعه إلى إساءة استغلاله على النحو الذى هتك شرعيته وقوض نموذجه. فبدلا من استثمار ذلك الفائض فى احتواء الجائحة الوبائية توطئة لبلوغ الغايات المشروعة كحفظ أمن بلاده القومى وترسيخ دعائم الديمقراطية وإنجاز التنمية الشاملة والمستدامة فى ربوعها، حسبما نظٌر المفكر والسياسى الأمريكى الشهير ريتشارد هاس قبل عقود ثلاثة خلت، إذا بإردوغان يضل الطريق بعدما سولت له نفسه استغلاله لإعادة هيكلة النظام السياسى التركى بما يخوله تأبيد هيمنته المنفردة على الحكم ليقوض التجربة الديمقراطية القلقة فى بلد مضطرب، فضلا عن التواطؤ فى تنفيذ مخطط تفكيك النظام الإقليمى وإعادة صياغته على النحو الذى يصب فى مصلحة قوى دولية وأطراف إقليمية مغرضة، بما يتماشى بالطبع مع تطلعات إردوغان الاستراتيجية وتوجهاته الإيديولوجية، وكأنه بذلك يتوخى محاكاة دول رأسمالية غربية أغراها فيما مضى فائض القوة الناجم عن تعاظم القوة العسكرية وتراكم الإنتاج الصناعى بغزو واحتلال دول وشعوب أخرى، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، بغية إيجاد أسواق لتصريف هذا الفائض، الذى أسماه كارل ماركس «فائض القيمة».
ههنا تتجلى روعة الديمقراطية الراسخة، التى تعين النخب الحاكمة على تحقيق الاستثمار الأمثل لفائض القوة، فى بيئة قرارية تتيح تفعيل ميكانيزمات الرقابة والمساءلة وآليات المراجعة والتصحيح الذاتى. فمن هذا المنطلق، لم يتورع الكونجرس الأمريكى عن تلجيم شطحات ترامب الاستراتيجية، على رغم ما بحوزته من صلاحيات منقطعة النظير، إذ أقر مجلس النواب فى يناير 2019، تشريعا يحول دون اتخاذ الرئيس قرارا بانسحاب الولايات المتحدة من الحلف الأطلسى «الناتو»، كما أقر فى مارس الماضى تشريعا آخر يقيد سلطته فى شن أى عمل عسكرى ضد إيران بغير موافقة الكونجرس. فى مقابل ذلك، تبقى الديمقراطية التركية المرتبكة عاجزة عن إفراز آلية فاعلة لكبح جماح العبث الإردوغانى بفائض قوة تركى، آخذ فى التآكل وربما تستغرق عملية إعادة إنتاجه عقودا زمنية لاحقة، حيث يأبى السلطان الحاكم بأمره إلا مواصلة العزف المنفرد على جميع مفاصل السلطة فى بلاده، بغير شريك ودونما رقيب أو حسيب، متوسلا إجراء انتخابات مبكرة، يلتمس من ورائها إنقاذ مخططه الشخصى الطموح، عبر ترميم شرعيته المتصدعة، بينما يأمل خصومه ومعارضوه، كما يتوقع مراقبون كثر حول العالم، أن تطوى صفحة مثيرة وحقبة قلقة من تسلط الاستبداد الفردى وطغيان الحزب المهيمن على تجربة ديمقراطية متعثرة، ما برح علم النظم السياسية يصنفها، منذ تدشينها قبل سبعة عقود خلت، على أنها ناشئة وغير مترسخة.