شاهدٌ على الأحلام المؤجلة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 12:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شاهدٌ على الأحلام المؤجلة

نشر فى : السبت 4 مايو 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : السبت 4 مايو 2024 - 6:40 م

بعض الكتب صغيرةُ الحجم، تترك فى العقل والنفس والذاكرة تأثيرًا يفوق الكتب الضخمة، لأنها تنتقى وتكثف فقط كل ما ترك بصمة أو علامة، ولأنها تمتلئ بشحنةٍ إنسانية وتأملية مركّزة، توهمك بأنها هروب إلى الماضى، فيما هى حكاية عن اليوم وعن المستقبل، فإذا كُتبت بأسلوب حافل بالصور والمجازات، وبسرد درامى يترجم الحدث بتفاصيله، اكتملت متعة القراءة والتأمل.

ينطبق هذا التوصيف على كتاب «خلف خطوط الذاكرة» الصادر عن دار ريشة، لمؤلفه د. خالد منتصر، والذى يمكن اعتباره ذكريات مكثفة للطفولة، ولسنوات الدراسة فى كلية الطب، ولبدايات الحياة العملية، سواء فى مجال محاربة أمراض الجسد، أو فى مجال الكتابة، ومحاربة أمراض العقل والذوق.

 يمكن أن تراه أيضًا شهادة على جيل، وصفه د. خالد فى عنوان جانبى على الغلاف بأنه «جيل الأحلام المؤجلة»، وهو ما ينطبق على أجيال سابقة ولاحقة أيضًا، ولكن الجيل الذى تكوّن ونضج فى سنوات السبعينيات من القرن العشرين، كان شاهدًا على لحظات تحوّل عاصفة أثرت، وما زالت تؤثر، على حياة المصريين.

تحمّست كثيرًا لفكرة الكتاب عندما أبلغنى د. خالد بها قبل شهور، وتوقعت ألا تكون مذكراته تقليدية، وراهنت نفسى بأن كتابته ستكون بوعى الحاضر والمستقبل، وكسبت كل هذه الرهانات.

لم أترك الكتاب إلا بعد أن أنهيته، هكذا يجب أن يقرأ مثل لوحة واحدة، متداخلة الألوان والشخصيات والتفاصيل، يغلفها الشجن والأسى أحيانًا، ولكنها نابضة بالحياة وبالأفكار وبالأسئلة، تحكى عن الماضى حقا، ولكنها أيضًا عن ثمار اليوم، وعن المستقبل، ابن الأمس واليوم.

تقاطع الكتاب بشكلٍ شخصى مع ذكريات كثيرة عرفتها، فقد عشت أيضًا فى القرية، وكتبت عن سنوات السبعينيات العاصفة بعيون صبى صغير، وكنت كذلك ابنًا لأسرة من الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التى تآكلت فاختلّ توزان المجتمع، وعدتُ مثل د. خالد إلى قاهرة أخرى غير تلك التى تركتها فى الصبا، ورأيت صعود تيارات التأسلم السياسى، وسيطرة التزمت والتدين الشكلى، وعشقت الكتب والكتابة، وعاينت لحظات الفراق والموت صغيرًا وكبيرًا.

كتب د. خالد عن كل ذلك بمزيجٍ من نظرة الطفل والشاب، ومن وعى وسؤال الكاتب المهموم والمشغول بالناس، حتى لو أزعجهم وأخرجهم من طمأنينة الجهل والتسليم، ليتدفق السرد كرحلة غريبة، تبدأ بندبات الروح ولحظات الحزن، بفقد الأخت الجميلة نادية فى الصغر، ثم وفاة الأم فى عز شبابها بمرض روماتيزم القلب، وينتهى الكتاب أيضًا بلحظات حزن وفقد، مع وفاة كتّاب كبار بصورة دراماتيكية، مثل صلاح عبد الصبور، وصلاح جاهين، وفرج فودة، ولكنه يترك صفحاتٍ أخيرة لنور والأمل، تمهيدًا لجزء قادم، بظهور المرأة الرائعة، التى ستكون شريكة حياته.

وبين البداية والنهاية، تتشكل معالم حياة وشخصية طفل صغير، ولد لأب كان أول من أكمل تعليمه فى قرية الشعراء فى دمياط، ودخل كلية العلوم، ليصبح خبيرًا فى مصلحة الطب الشرعى.

يدهشنا أن الطفل خالد رفض أن يسافر مع والده المعار إلى ليبيا، وفضّل أن يعيش فى قرية الشعراء لمدة أربع سنوات، تركت الكثير من الذكريات والحكايات فى ذاكرته.

صفحات القرية فى الكتاب ممتعة حقا، وتبدو مثل قصص قصيرة شيقة، حياة بسيطة تجمع بين جمال الطبيعة، وبؤس الواقع، الذى تسوده الخرافة، وتنتهكه حوادث مؤلمة، مثل مشاهدة الطفل لعملية ختان بشعة لرفيقة اللعب، ومعاينته لآلام ونهايات مرضى البلهارسيا، وفى تلك الصفحات أيضًا وصف بديع ومضحك لفرح شعبى حافل بالأغنيات المكشوفة المرحة، ووصف آخر لورش دمياط، ولفنانيها من صناع «الأويما»، أو فن النحت على خشب الأثاث.

فى صفحات الجامعة حكايات أعجب: من سنة تمهيدية فى كلية العلوم بجامعة القاهرة، زار الشاب كليات الإعلام والاقتصاد والآداب، لاكتشاف الثقافة وجيل التمرد اليسارى، وصولًا إلى سنوات كلية طب قصر العينى فى السبعينيات، وسيطرة جماعات التأسلم السياسى، التى أطلق لها العنان بعد مظاهرات 18 و19 يناير 1977، وكانت أدوات السيطرة تتمثل فى العنف واستعراض القوة، مثل الفصل بين الطلاب والطالبات، ووقائع الضرب والاعتداء على منظمى حفلة لهانى شنودة وفرقة المصريين، مع تقديم خدمات للطلاب، مثل طبع نسخ الكتب الغالية، بالإضافة إلى السيطرة على الاتحادات الطلابية بشكلٍ كامل، وكان من أبرز نجوم تلك الحقبة من طلاب الطب المتأسلمين: عصام العريان، وعبد المنعم أبو الفتوح، وحلمى الجزار.

لن تنتهى الصدمة بصعود التطرف، ولكن الشاب سيكتشف نماذج كارثية وسادية وديكتاتورية لبعض الأساتذة، وسينتقد طريقة التعليم الطبية التى تحوّل «الحكيم» إلى «ميكانيكى» للجسد البشرى، وسيمتد كابوس الصدمة إلى سنة الامتياز.

سيظهر من جديد التعصب الدينى، الذى حرم كثيرًا من الكفاءات من الحصول على الوظائف التى يستحقونها، أما سنوات التكليف فى الوحدات الصحية، فهى أقرب إلى الكوميديا السوداء، والكتاب حافل بقصص مع المرضى وذويهم، تصلح لكى تكون موضوعًا لعمل درامى مميز.

وسط هذه الصراعات والصدمات، تبدو الكتابة هى الملجأ والملاذ، يكتب الشاب القصة القصيرة، انبهارًا بيوسف إدريس، يذهب إلى لويس جريس رئيس تحرير مجلة «صباح الخير»، حاملًا معه مقالا بعنوان «أنا من جيل آماله مؤجلة»، فيُنشر المقال، ويثير جدلًا بين مؤيد ومعارض، يستجيب لنداهة الكتابة فى صحف ومجلات شتى، ويعرف أيضًا كتابة الأعمال الدرامية فى الراديو والتليفزيون، ويعيش ثنائية معالجة أوجاع الجسد، ومداوة أمراض العقل والتفكير.

ربما يكون حصاد التجربة فى سطور مهمة يؤكد فيها د. خالد كراهيته للجهل وللأفكار المسبقة وللتصنيف الأيديولوجى. اختار فى النهاية أن يكون نفسه، حتى لو غرّد وحيدًا، واختار أن يعلن موقفه دون خوف أو تردد، وكره التعصب سواء عند تجار الدين، أو عند بعض المثقفين.

أتمنى على د. خالد أن يكمل حكايته فى كتاب قادم، فما زال فى جعبته الكثير: سردًا وتأملا وانتقادًا وسؤالًا وسخرية.

 

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات