تمثل الدعوة للحوار الوطنى الشامل فرصة حقيقية لإرساء دعائم ثابتة لما يسمى بالجمهورية الجديدة، وتشير دراسة التجارب الدولية منذ الثورة الصناعية الأولى وحتى الآن إلى أن الركيزة الاقتصادية تمثل الدعامة الأساسية لأى مرحلة جديدة فى النمو البشرى، ومن هذا المنطلق فسوف نركز على النواحى الاقتصادية المطلوبة لانطلاقة جديدة تحدد مسار التنمية فى المستقبل، وليس معنى هذا بالطبع التقليل من شأن الجوانب الأخرى للتقدم وخاصة النواحى السياسة والاجتماعية والثقافية، إذ إن تلك الركائز تمثل صمام الأمان لتحقيق التقدم الاقتصادى المستدام، فلا يمكن أن نتصور حدوث نهضة اقتصادية بدون استقرار اجتماعى عن طريق السياسات الاحتوائية التى تضمن التوزيع العادل لثمار النمو على جميع فئات المجتمع. كذلك لا يمكن تصور هذه النهضة الاقتصادية فى ظل سيادة ثقافة لا تعلى قيم الإنتاج والعمل المنتج وصيانة الأصول العامة التى تم تراكم الاستثمار فيها عبر فترات سابقة. والحفاظ على منظومة القيم التى تمثل صلب الهوية الوطنية.
إن الوضع الاقتصادى الذى يمر به العالم اليوم يشبه إلى حد كبير أحداث الكساد العظيم الذى ضرب العالم فى (1929ــ1932)، والذى مثل تهديدا كبيرا للنموذج الاقتصادى السائد فى ذلك الوقت، وتمثلت عظمة الاستجابة لتلك الأزمة فى تطور سريع وملموس فى الفكر الاقتصادى الذى حاول جاهدا أن يقدم حلولا عملية للخروج من الأزمة وإرساء أسس التقدم فى فترة ما بعد الأزمة. وقد قاد هذا الاتجاه الاقتصادى البريطانى جون مينارد كينز الذى ركز على أهمية السياسات فى الأجل القصير التى تستهدف إعادة النشاط للحياة الاقتصادية.
دروس التاريخ
بداية نحن مطالبون بالخروج من الدائرة المفرغة التى يدور فيها الحوار عادة والذى يركز فى الأساس على الإغراق فى سرد المشكلات مما يصل فى النهاية إلى حد جلد الذات بل والإحباط. وبالطبع فإن الوقوف على مشاكلنا مطلوب وضرورى، ولكن عدم تجاوز هذا التكرار العقيم للمشكلات دون الحلول قد يصل بنا إلى تعميق الحفرة التى نقع فيها مما يجعل الخروج منها أكثر صعوبة ومما قد يترتب عليه آثار سلبية بل ومدمرة.
والسؤال الآن كيف نستلهم دروس الماضى ونحن بصدد استشراف مرحلة جديدة فى نمو الاقتصاد المصرى آخذين فى الاعتبار التغير الهائل فى الظروف العالمية والإقليمية والمحلية التى نواجهها اليوم بالمقارنة مع ثلاثينيات القرن الماضى؟
إن استقراء التاريخ الاقتصادى المصرى يشير إلى سمة أساسية وهى عدم اكتمال أى تجربة من التجارب التنموية سواء فى ذلك الثورة الاقتصادية التى أحدثها محمد على، أو التحديث الذى أدخله إسماعيل باشا أو الطفرة التصنيعية التى قادها طلعت حرب وتم استكمالها فى الحقبة الناصرية. بعد ذلك فإن التاريخ هو تاريخ «تفكيك التصنيع».
التحدى والاستجابة.. سيناريوهات المستقبل
إن محاولة رسم سيناريو للمستقبل يتخذ كنقطة بداية الوضع الراهن للاقتصاد المصرى، ويؤسس عليه ما نستهدفه خلال العشر سنوات القادمة، شريطة تحقيق التغييرات اللازمة للعبور مما نحن فيه إلى ما نصبو إليه، دون الإغراق فى اجترار الماضى والتركيز على المشكلات. فلقد أصبحت مشكلات الاقتصاد المصرى واضحة تماما وانعكس ذلك فى العرض الذى قدمه أخيرا السيد رئيس مجلس الوزراء. ويمكن تلخيص التحديات التى نواجهها فيما يلى:
* ضرورة الارتفاع بمعدل النمو الاقتصادى على مدى العشر سنوات القادمة إلى 6% على الأقل مقارنة مع (3,5%) فى 2020، وهو ما يتطلب تعبئة استثمارات بنحو 25% من الناتج المحلى الإجمالى وذلك مقارنة بنحو 13% فى عام 2021. ويحتم ذلك ضرورة استيعاب نحو مليون نسمة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل سنويا.
* اختلال الموازين الاقتصادية الداخلية (عجز الموازنة العامة 6,8% من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2020/2021)، والخارجية (عجز الميزان التجارى 4,6% من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2020/2021).
* تفاقم الدين العام الذى أصبح يمثل نحو 86% من الناتج المحلى الإجمالى فى 2020/2021، وهو ما يتطلب تخصيص (32% من الإنفاق العام) لخدمة هذا الدين.
* تجاوز نمو القوى العاملة الطلب عليها بما يؤدى إلى استمرار مشكلة البطالة بالإضافة إلى عدم المواءمة بين مخرجات نظم التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل، وكذلك تنامى حجم القطاع غير المنظم الذى أصبح يمثل نحو 35% من إجمالى قوة العمل و50% من التشغيل فى الحضر. هذا بالإضافة إلى ما ترصده الدراسات الخاصة بالتنافسية حول ضرورة الارتقاء بمهارات القوى العاملة كشرط لمواجهة التطور التكنولوجى الناجم عن الثورة الصناعية الرابعة.
* رغم الجهود المبذولة لتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية (الدعم، القضاء على العشوائيات، برنامج تكافل وكرامة، حياة كريمة... إلخ)، إلا أن التحولات الاقتصادية الخارجية والداخلية قد أدت إلى استمرار ظاهرة الفقر واللا مساواة (نسبة الفقر نحو 30% فى عام 2019/2020).
* * *
إن مواجهة هذه التحديات بالبناء على ما تم تحقيقه فى الماضى ليس بالعسير، والمقترح هو تبنى برنامج وطنى لانطلاق الاقتصاد المصرى يشمل حزمة متسقة من السياسات قصيرة الأجل (2022 ــ2030) على أن تضمن، بالطبع، الاستمرارية فى الأجل الطويل.
وينهض هذا البرنامج على ثلاث ركائز رئيسية:
أولا، التصنيع: فإذا ما أردت أن ألخص تجربتى فى دراسة ورسم سياسات التنمية فى العقود الأربعة الماضية فلا أجد إلا كلمة واحدة وهى التصنيع. إن التحول الكبير فى مصر لابد أن يعتمد على طفرة جديدة فى التصنيع، أى لابد من إحداث تغير هيكلى فى بنية الاقتصاد المصرى تكون فيه الصناعة هى «قاطرة التنمية». وهذه هى خلاصة تجربة النمو فى الدول المتقدمة والاقتصادات الناشئة على حد سواء. ويتطلب ذلك تصميم وتنفيذ سياسة صناعية حديثة تقوم على دخول مصر فى سلاسل الإنتاج العالمية، وذلك بتأهيل قوة عمل صناعية على رأس العمل، وإزالة معوقات الاستثمار، وإنشاء مؤسسات تنموية حقيقية ودعم جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، ودراسة القدرة التنافسية لمصر والقضاء على عوامل انخفاضها ودعم مصادر تقويتها. هذه الرؤية المستقبلية للاقتصاد المصرى لابد أن تبدأ بتحديد هدف أن تمثل الصناعة 40% من الناتج المحلى الإجمالى (36% فى ماليزيا مثلا) فى مقابل نصيبها الآن وهو 17%. وتنفيذ السياسات الصناعية وإنشاء المؤسسات (وليس الكيانات البيروقراطية) اللازمة لتحقيق هذا الهدف. وهنا لابد أن تتجه سياسات الأجل القصير إلى الإحلال محل الواردات Import Substitution، بالاستناد على القائمة التى أعدها مركز تحديث الصناعة، مع تعبئة الموارد اللازمة، و«نسف» جميع المعوقات القانونية والبيروقراطية التى تعترض تحقيق هذا الهدف. إن هذه الاستراتيجية يمكن أن تعطى دفعة تاريخية للقطاع الخاص، بدلا من المناقشات العقيمة حول ما هو للدولة وما هو للقطاع الخاص.
ثانيا: إعداد قوة العمل المصرية لتحقيق الطفرة الصناعية المنشودة والارتقاء بمستوى التنافسية فى ظل هيمنة التقدم التكنولوجى المعاصر. وهناك إجماع على أن الموارد البشرية هى المصدر الأساسى للميزة النسبية لمصر، نظرا لندرة الموارد الطبيعة الأخرى. ولكن التطور التكنولوجى فى العالم يحتم الارتقاء بمهارة قوة العمل؛ إذ إن هذا التطور يعنى اختفاء وظائف قائمة وهى الوظائف المكتبية وتلك المعتمدة على التكرارية واستحداث وظائف جديدة تتطلب التعامل مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة. إن التحدى الأكبر يتمثل فى النمو السكانى المنفلت، فسوف يرتفع عدد سكان مصر من 103 ملايين حاليا إلى نحو 120 مليونا فى 2030، وينتج عن ذلك زيادة القوة العاملة من نحو 30 مليونا حاليا إلى ما يقرب من 35 إلى 40 مليونا فى عام 2030، أى أن التحدى هو توفير ما يقرب من مليون فرصة عمل منتج سنويا، حتى نستطيع المنافسة دوليا، وحتى نوقف تسرب الشباب إلى القطاع غير المنظم المنخفض الإنتاجية والمتدنى الأجر وهنا لابد من إعادة النظر كليا فى منظومة التدريب، وإقامة الصندوق الوطنى للتدريب على أسس سليمة.
ثالثا، تعزيز الركيزة الاجتماعية للنمو: إذ إن النمو السريع غالبا ما يؤدى إلى اتساع الفجوة بين الفئات المختلفة، وهنا يأتى دور الدولة فى تصحيح مسارات السوق التى قد تتجه إلى زيادة اللا مساواة. ومن أهم السياسات فى هذا المجال السياسة الضريبية، فلابد من إصلاح الهيكل الضريبى القائم الآن بما لا يخل بنظام الحوافز للقطاع الخاص. بالإضافة إلى ذلك فإنه من الضرورى تعزيز برامج الحماية الاجتماعية الحالية من حيث الشمول والاستمرارية.
إن من شأن تنفيذ هذه السياسات والتركيز على الأجل القصير هو ضمان توجيه الموارد المحدودة للدولة والمجتمع لتحقيق نتائج ملموسة تدعم مسار التقدم فى البلاد فى إطار بيئة دولية متقلبة ووضع جيوسياسى إقليمى محفوف بالمخاطر. إن الأمل معقود على أن يخرج الحوار الوطنى بتشكيل مجموعات عمل (وليس لجان) تركز كل منها على محور محدد من محاور العمل الوطنى وبلورة خطط واضحة لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، وليكن الشعار هو ما رفعناه فى الحركة الطلابية فى الستينيات «كن واقعيا، واطلب المستحيل».