رحل عن عالمنا الأربعاء الماضى واحد من ألمع الاقتصاديين المصريين وهو الدكتور محمود عبدالفضيل (١٩٤١ــ٢٠١٧)، وهو رفيق الدرب مع جيل الوسط الذى خلف جيل الرواد من أمثال حسين خلاف، عبدالجليل العمرى، محمد أنيس، عبدالمنعم الطناملى، محمد زكى شافعى وسعيد النجار.
وكان جيلنا ــجيل الستيناتــ هو الذى حمل مهمة صياغة أفكار وسياسات تؤسس لاقتصاد مصر الحديثة بعيدا عن الاتجاهات الديماجوجية والشعبوية التى سيطرت على صنع السياسات الاقتصادية فى أعقاب ثورة يوليو١٩٥٢. وكانت وسيلتنا فى ذلك الاهتداء بالفكر الاقتصادى الرصين والمدعوم بأساليب البحث الاستقصائى القائم على البراهين الرقمية.
ولقد التقيت بمحمود عبدالفضيل أول مرة فى جامعة السوربون الذى كان يحضر فيها لدرجة الدكتوراه، وكنت منغمسا فى تمثيل طلبة إنجلترا للتواصل مع ممثلى ثورة الطلبة فى فرنسا التى اندلعت فى منتصف الستينيات. ولكن توطدت علاقتنا بعد مجيئه إلى جامعة كامبريدج فى السبعينيات، وكنت قد انتقلت من لندن إلى أكسفورد. وقد تتابعت لقاءاتنا فى القاهرة بعد ذلك، وإن كانت على فترات متباعدة.
***
كانت رسالة الدكتوراه لمحمود تمثل عملا رائدا فى الفكر الاقتصادى، إذ إنه اختار موضوع «دور الأسعار فى عملية التخطيط الاقتصادى»، وكان هذا غريبا إذ إن الاعتقاد السائد حينئذ كان التناقض التام بين أسلوب التخطيط (الذى هيمن عليه الأسلوب السوفيتى) وبين الأسعار التى هى محرك السوق فى الاقتصاد الحر. وكانت النتيجة مبهرة مما سهل عليه الالتحاق بجامعة كامبريدج للقيام بأبحاث جديدة. وقد كانت كامبريدج فى تلك الفترة منارة من منارات الفكر الاقتصادى لفترة ما بعد كينز (إشارة إلى الاقتصادى البريطانى الشهير الذى آثر فى صنع السياسات للخروج من الكساد العالمى فى ١٩٢٩ــ١٩٣٢، وتعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية). وكان قسم الاقتصاد التطبيقى الذى انتسب إليه محمود يموج بالأفكار الجديدة التى تبنتها مجموعة أطلقت على نفسها «سيرك كينز» إذ إن أعضاءها كانوا من تلاميذ كينز وفى مقدمتهم جوان روبنسون، التى كانت الأقرب إلى كينز، وبيرو سرافا، جيمس ميد، ريتشارد كاهن، ثم إماراتيا سن الحائز على نوبل فى ١٩٩٩.
عاش محمود عبدالفضيل فى هذا المناخ الرائع وتأثر بالأفكار الكينيزية، ولكنه وظف ذلك كله فى دراسة الاقتصاد المصرى، ونشر كتابين هامين (بالإنجليزية) وهما: «التنمية، توزيع الدخل، والتغير الاجتماعى فى الريف المصرى،١٩٥٢ــ١٩٧٠ (الذى قدم واحدا من أوائل محاولات قياس الفقر وتوزيع الدخل فى مصر الثورة). وتلا ذلك بكتاب «الاقتصاد السياسى للناصرية» والذى قدم تحليلا للتشغيل وتوزيع الدخل فى الحضر.
وأذكر فى هذا المقام الرعاية التى أولاها الدكتور محمود لواحد من قادة الحركة الطلابية التى اندلعت فى مصر فى عام ١٩٧٢، وهو ما سمى بـ«عام الحسم» وهو الدكتور أحمد عبدالله رزة، فبعد الإفراج عنه لم يجد أى سبل للعيش فى مصر، واستقدمناه إلى إنجلترا آملين أن يجد عملا يساعده على استكمال دراسته، وقد عمل محمود كل ما فى وسعه لمساعدته إلى أن حصل على منحة من جامعة كامبريدج مكنته من تحقيق حلمه فى الحصول على الدكتوراه فى العلوم السياسية، وتم نشر رسالته فى كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان «حركة الطلبة والسياسة الوطنية فى مصر، لندن، ١٩٨٥».
وبعد عودة محمود عبدالفضيل إلى مصر، وحتى رحيله، لم تنقطع مساهماته، إلى جانب التدريس فى كلية الاقتصاد والجامعة الأمريكية، فى القضايا الاقتصادية التى تهم مصر مثل نمو الاقتصاد غير المنظم، أو كما اسماه الاقتصاد الخفى، والسياسات المالية والنقدية، وكان عضوا فى اللجنة النقدية للبنك المركزى المصرى.
ولم تقتصر مساهمات الدكتور عبدالفضيل على الاقتصاد المصرى، إذ أنه كان يؤمن بأن نمو الاقتصاد المصرى هو رهن بالتكامل ضمن إطار عربى قائم على أسس مدروسة.
***
رحم الله الراحل العزيز، وألهم أسرته الصبر والسلوان، راجيا أن تلهم هذه السطور الأجيال الجديدة التى تتلمس طريقها إلى المستقبل.