نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب الحسين الزاوى، تحدث فيه عن انتشار الوعى بأهمية الأمن السيبرانى فى الشرق الأوسط بعد أحداث ثورات الربيع العربى، كما تناول مساعى الدول العربية والإقليمية والعالمية للحفاظ على السيادة الرقمية... جاء فيه ما يلى:
تواجه الدول العربية ومعها مختلف القوى الإقليمية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تحديات جدية تتعلق بالمحافظة على السيادة فى مجالات التكنولوجيات الحديثة التى باتت تفرضها الثورة الرقمية على الدول الوطنية وتدفعها إلى اعتماد منهجيات ومقاربات جديدة من أجل حماية أمنها القومى من الأخطار غير التقليدية التى يمثلها الواقع السيبرانى الذى استطاع أن يغير كل مفاهيمنا بشأن الزمان والمكان والمحيط الجيوسياسى للدول وأن يجعل الحدود الجغرافية تبدو فى غاية الهشاشة وقابلة للاختراق من قبل فاعلين افتراضيين يصعب تحديد هوياتهم والتعرف إلى القوى أو الدول التى تدعمهم وتوفر لهم الملاذ الآمن.
ويمكن القول إن مفهوم السيادة الرقمية، الذى أضحى يشكل جزءا مهما من النقاش العام فى معظم المجتمعات خلال السنوات القليلة الماضية، يفرض نفسه على كل القوى الكبرى فى العالم وليس على دول الشرق الأوسط فقط، ويتضح ذلك من خلال الإجراءات المختلفة التى تتخذها تلك القوى للدفاع عن سيادتها؛ حيث تعمل الصين على فرض رقابة شديدة على الفضاء السيبرانى وتحجُب العديد من المواقع والمنصات والتطبيقات الغربية التى ترى أنها تُستخدم لأغراض التجسس، وتعمل موسكو من خلال شركاتها التقنية فى القطاعين العام والخاص، وبإسناد مباشر من أجهزتها الأمنية، على تحقيق مستوى متقدم من السيادة الرقمية؛ وحتى واشنطن، صاحبة أكبر شركات التقنية فى العالم، تشكو هى الأخرى من الهجمات السيبرانية إلى الحد الذى جعل رئيسها السابق ترامب يدعو إلى التخلى عن خيار الانترنت المفتوح.
وقد بدأ الوعى بأهمية الأمن والسيادة فى المجال الرقمى، يتبلور فى منطقة الشرق الأوسط بعد انطلاق ما سمى «الربيع العربى»، والتى جعلت دول المنطقة تقتنع بأن هناك من يتدخل فى مسار الأحداث من خلال التحكّم فى المعلومة ويعمل على نشر الإشاعة للتأثير فى النقاشات التى كانت تجرى فى منصات التواصل الاجتماعى؛ كما اكتشفت هذه الدول أن معظمها دخل الفضاء السيبرانى المفتوح دون أن يمتلك القدرات والكفاءات التى تسمح لها بالتصدى للاختراقات التى تقوم بها القوى الأجنبية لأمنها وسيادتها الرقمية.
وعلاوة على ذلك، فإن منصات التواصل الاجتماعى تطرح صعوبات كبرى تتعلق بإمكانية وأساليب تنظيم عملها ووضع ضوابط لها، حتى لا يتحول النقاش فى منصاتها إلى أداة يمكنها أن تهدد الوحدة الترابية واستقرار النسيج المجتمعى للدول؛ وبخاصة أن الحرص على السير العقلانى والمتزن لهذه المنصات يشكل أولوية قصوى حتى بالنسبة للقوى الكبرى التى تضطر فى العديد من المناسبات إلى التدخل فى عملها لتجنب تحوّلها إلى أداة لزرع الفوضى داخل المجتمع كما حدث عندما قامت منصة «تويتر» بغلق حساب الرئيس ترامب.
وتسعى دول المنطقة فى هذه المرحلة إلى رسم حدودها الرقمية لتكون متساوية مع حدودها الجغرافية أسوة بما تطالب به وتسعى إلى تحقيقه الدول الأوروبية فى مواجهة العملاقين الأمريكى والصينى، وذلك من أجل حماية أمن المؤسسات والشركات الاقتصادية التى تتعرض لتهديدات سيبرانية عديدة، إضافة إلى حماية الخصوصية والبيانات الخاصة بالأفراد التى أصبحت عرضة للتهديد من قبل قراصنة الانترنت، لاسيما أن الخبراء يذهبون إلى أن هذه التهديدات ستتضاعف فى المستقبل القريب مع انتشار تقنية الجيل الخامس.
وتكمن المشكلة الكبرى التى تواجهها الدول فى عدم قدرتها على فرض ضوابط وقيود على الشركات الكبرى المسيّرة للمنصات الرقمية التى تسعى إلى فرض أجندتها على الدول وتعمل فى المقابل على وضع قيود غير ديمقراطية ومنافية لمبادئ حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بمصالح أمريكا أو حلفائها وتلجأ إلى الغلق المؤقت وأحيانا الدائم للآلاف من حسابات مستخدميها، كما تقوم أيضا بمنع تداول الأخبار التى تنشر فى بعض وسائل الإعلام الروسية والصينية.
وعليه فإنه إذا كانت بعض الدول العربية أكدت التزامها بإنشاء البنية التحتية والآليات اللازمة لتعزيز قدراتها فى الأمن السيبرانى وتعزيز سيادتها الرقمية، إلا أن معظم دول المنطقة ما زالت تشهد استباحة مقلقة لأمنها وسيادتها الرقمية عبر منصات التواصل الاجتماعى، التى أضحت تنشر محتويات تحض على الفوضى وتؤثر بشكل سلبى فى وحدة وتماسك النسيج المجتمعى للكيانات الوطنية.