ضمن سياق ما يعرف بحروب الجيل السادس، أضحت مجالات التقنيات المتقدمة، التى تشمل الذكاء الاصطناعى، شبكات الجيل الخامس، الحوسبة الكمية، التكنولوجيا الحيوية، المركبات الكهربائية، إنترنت الأشياء، وتكنولوجيا الأسلحة الذكية؛ أحد أبرز ميادين المنافسة المستعرة بين واشنطن وبكين.
قدر استطاعتها، تمضى الولايات المتحدة لإعاقة الزحف الصينى الحثيث صوب قمة النظام الدولى، عبر استراتيجيتها الرامية إلى فك الارتباط الاقتصادى والتكنولوجى مع بكين، والتى تستهدف تقليص الاعتماد الغربى عليها فى الصناعات الحيوية. علاوة على حرمانها من اقتناء التكنولوجيا الحساسة والرقائق الإلكترونية المتقدمة، المغذية لقوة معالجة الذكاء الاصطناعى؛ بينما تشكل، فى الوقت ذاته، الحلقة الأضعف فى سلسلة الابتكار الصينية. بدورها، تحاول بكين الضغط على واشنطن، من خلال تسييس المخزونات الصينية الاستراتيجية من المواد الأولية الحيوية والعناصر النادرة، اللازمة لصناعة أشباه المواصلات، إنتاج الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الدقيقة.
استهلت واشنطن حربها التكنولوجية ضد بكين، بحرمان شركة «جوجل» الأمريكية، من أى دعم لشركة «هواوى» الصينية، المصنفة الثانية عالميا فى مجال صناعة الهواتف الذكية. بما يحرم مستخدمى هواتفها من خدمات جوجل مثل: «الجى ميل»، و«خرائط جوجل»، و«جوجل بلاى»، وغيرها. وبعدما اتهمتها بالتجسس لمصلحة الحكومة الصينية، أدرجت الحكومة الأمريكية شركة «هواوى» ضمن القائمة التجارية السوداء. وعلى إثرها، جاء قانون «ردع الخصوم التكنولوجيين لأمريكا DATA»، ليستهدف تطبيق «تيك توك» وكل ما يرتبط بشركة «بايت دانس» الصينية المالكة له.
بحلول العام الماضى، قيدت إدارة بايدن، صادرات أشباه الموصلات المتطورة، ومعدات تصنيع الرقائق المصنعة باستخدام التكنولوجيا الأمريكية، إلى الصين. كما قلصت تدفقات الاستثمارات الصينية إلى شركات التكنولوجيا الأمريكية. وفى مارس الماضى، تمكنت واشنطن من إقناع، هولندا واليابان، بإبرام اتفاقية ثلاثية لتقييد تصدير تكنولوجيا تصنيع الرقائق المتقدمة للصين. وفى أكتوبر الفائت، أصدرت، إدارة بايدن، «قانون الرقائق والعلوم لعام 2022»، بهدف خنق الجهود الصينية الناشئة فى مجال الذكاء الاصطناعى والحوسبة الكمية. وقد أسهمت تلك التحركات فى انكماش واردات الصين من الرقائق بنسبة 23٪. وفى التاسع من أغسطس المنقضى، وقَّع، بايدن، أمرا تنفيذيا يخول وزارة الخزانة حظر، أو تقييد بعض الاستثمارات الأمريكية فى الكيانات الصينية، اعتبارا من العام المقبل؛ فى قطاعات: أشباه الموصلات، الإلكترونيات الدقيقة، تقنيات المعلومات الكمية، وأنظمة الذكاء الاصطناعى. وفى السياق ذاته، جاء القرار الأمريكى ليمنع شراء الأسهم الخاصة، استثمارات المشاريع المشتركة بمجال أشباه الموصلات، وبعض تقنيات المعلومات الكمِّية، داخل الصين.
تعزو إدارة بايدن، قيودها المتنامية على الصين، إلى اعتبارات تتصل بالأمن القومى الأمريكى. حيث تنشد حرمان بكين من استثمار الأموال والخبرات الأمريكية، لتطوير تكنولوجيا عسكرية حساسة، يمكن استخدامها فى تهديد أمن الولايات المتحدة ومصالحها. فلقد أكدت تقاريرغربية ضلوع الصين فى تُوظِّف الاستثمارات الأمريكية لتطوير استراتيجيتها العسكرية وعمليات الابتكار الدفاعى. فمن خلال المفهوم الغامض لدمج التكنولوجيا، يجرى الاستخدام المزدوج للتقنيات المتقدمة، كمثل: الإنترنت، نظام تحديد المواقع العالمى، أشباه الموصلات، الطاقة النووية، تكنولوجيا التصوير، والعديد من الابتكارات الصيدلانية، للأغراض العسكرية والمدنية.
رسميا، رفضت بكين تذرع الأمريكيين بأمنهم القومى، لتسييس التجارة وعسكرة العلوم والتكنولوجيا. ما يطيح بقواعد النظام الاقتصادى العالمى، القائم على اقتصاد السوق والمنافسة العادلة. كما يضر بالأنشطة التجارية العادية، ويُقوِّض أمن سلاسل الصناعة والتوريد العالمية، ويفاقم الحرب الاقتصادية والتجارية، التى نشبت بينهما منذ عام 2018. وردا على حصار واشنطن وحلفائها، قررت بكين، مؤخرا، فرض قيود على تصدير اثنين من المعادن النادرة الضرورية للتكنولوجيا الخضراء، واللازمة لتصنيع أشباه الموصلات، كما تدخل فى صناعة أسلحة متقدمة، مثل مقاتلات «إف ــ 35»، وهما معدنى «الغاليوم» و«الجرمانيوم». ما يؤثر سلبا على صناعة الدفاع الأمريكية.
مستفيدةً من كثافة حجم الاستثمارات العالمية بهذا المجال، توجهت بكين نحو الاستغناء عن استيراد أشباه الموصلات، والعمل على توطين صناعتها محليا. فقبل عشرين عاما، كانت الصين تنفق 0.9% فقط من ناتجها المحلى الإجمالى على البحث والتطوير، بما يقارب ثلث حصة الـ2.6% الأمريكية. وبحلول عام 2019، باتت تنفق 2.2% من الناتج المحلى الإجمالى على البحث والتطوير، تعادل 71% من حصة أمريكا البالغة 3.1%. كما باتت الصين تتفوق على الولايات المتحدة فى أعداد أبحاث الدكتوراة، التى يتم إعدادها فى مجالات العلوم، التكنولوجيا، الهندسة والرياضيات. وتضع بكين التكنولوجيا، فى صدارة أولويات أنشطتها التجسسية ضد الولايات المتحدة، تليها المجالات الاقتصادية ثم العسكرية. الأمر الذى يكبد الولايات المتحدة 12 تريليون دولار.
لطالما حذر خبراء من إمكانية ارتداد استراتيجية احتواء الصين، بنتائج عكسية على واشنطن. فعلاوة على إثقالها كاهل المستهلك الأمريكى، وتهديدها أمن واستقرار سلاسل الإمداد العالمية، قد تؤدى إلى تعميق الروابط الاقتصادية بين الصين ودول أخرى، ومن ثم تعظيم نفوذ بكين الجيوسياسى عالميا. فبرغم انكماش التعاملات التجارية بين واشنطن وبكين، تمكنت الأخيرة من إعادة توجيه استثماراتها إلى دول آسيوية. وفى مجال المعادن الأرضية الحيوية، تواصل تقديم مدخلات يصعب استبدالها؛ حيث لا يمكن للقواعد الأمريكية الجديدة، تخليص سلاسل التوريد بأكملها من النفوذ الصينى فى مجال المعادن النادرة. وتنتوى بكين الحفاظ على نمو مطرد فى إنتاج المعادن غير الحديدية، مثل النحاس والليثيوم، بنحو 5.5% على أساس سنوى، للعامين الحالى والمقبل.
وإبان اجتماع قمة مجموعة السبعة الأخيرة بمدينة هيروشيما اليابانية، ناقش، بايدن، الجهود المشتركة للحد من الاستثمار فى التكنولوجيا الحساسة؛ متوسلا تعاون الحلفاء فى محاصرة الصين تكنولوجيا. وبينما أبدى الشركاء الغربيون والآسيويون استعدادا للتجاوب، لم يقدموا على الإجراءات، التى ترجوها الإدارة الأمريكية. وعلى وقع جائحة كورونا، نجحت الصين فى الاستحواذ على ملكية المشروعات الاستثمارية الغربية بمعامل إنتاج التكنولوجيا والكيماويات لديها، من خلال شرائها فى البورصة بأسعار زهيدة، دون أن تتسبب فى أى أزمات سياسية، أو انتهاك لاتفاقات دولية، يستتبع عقوبات اقتصادية عليها، أو يكبدها تعويضات مالية باهظة.
وجه آخر للحرب التكنولوجية بين الصين وأمريكا، تجلى فى تضييق الأخيرة على ما يناهز 360 ألفا من الباحثين والدارسين والعلماء الصينيين لديها، بذريعة التجسس. فبجريرة «مبادرة الصين»، التى أطلقتها وزارة العدل لمواجهة التجسس الاقتصادى وتهديدات الأمن القومى من قبل الصين، قفزت أعداد العلماء الصينيين المغادرين للولايات المتحدة، من 900 إلى 2621 شخصا خلال العقد الأخير. ولما كان العلماء الصينيون يمثلون ما يقرب من 30% من باحثى الذكاء الاصطناعى فى مؤسسات أمريكية، ويشكلون «مصدرا لقوتها الوطنية»؛ تنذر مغادرتهم لدولة تعتمد مزيتها الاقتصادية والعسكرية فى العلوم، التكنولوجيا، الابتكار، والمنافسة العالمية، على استقطاب المواهب من شتى أصقاع الأرض، بأفول تقدمها العلمى، وخفوت قوتها الذكية. فى الوقت الذى غدت الصين ثانى أكثر دولة إنتاجا للأبحاث العلمية بعد الولايات المتحدة، كما تتلوها فى إجمالى الإنفاق على البحث والتطوير. وقد نمت نسبة الدراسات العلمية المنشورة فى الصين، وارتفعت جودتها بشكل مطرد، حتى أمست مراجع للعلماء والأكاديميين حول العالم.
لم تخف دوائر أمريكية مخاوفها من تفوق بكين على واشنطن لجهة استخدام الذكاء الاصطناعى للأغراض العسكرية؛ حيث تتبارى الدولتان فى إنفاق مليارات الدولارات للاستفادة من التطورات فى البيانات الضخمة، واستخدامات أدوات الذكاء الاصطناعى التوليدى، التى يمكنها إدراك الأهداف دونما تدخل بشرى، عبر تحليل صور الأقمار الاصطناعية. كما يوجه الجانبان ثلث عقود التسلح للمركبات الذكية والذاتية القيادة، وأدوات الذكاء الاصطناعى الخاصة بالاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. الأمر الذى يشى بإمكانية تأجيج المنافسة التكنولوجية لمواجهة شاملة بين واشنطن وبكين. لا يفتأ خبراء يراهنون على الاعتماد المتبادل بين البلدين، لكبح جماحها.