يفكرون ويكتبون عن اليوم التالى للحرب ضد الفلسطينيين. ونحن من هؤلاء. آخرون خططوا ونفذوا، أو مستمرون فى تنفيذ الخطط، ليأتى اليوم التالى متوافقًا مع أهدافهم وأطماعهم وربما أيضًا مع أساطيرهم. عادة فى مثل هذه الحروب يلعب العالم من حولها دوره فى إحباط هذه الخطط أو فى تسهيل تنفيذها وتحقيق أهدافها. الحرب الراهنة ضد أهل فلسطين ليست استثناء فللعالم دور فيها. أزعم أن دوره كان حاسمًا. بصمات هذا الدور سوف نراها فوق مختلف مشاهد هذا اليوم التالى الذى يجرى الآن تصميمه وإعداد تفاصيله.

جدير بنا أولًا التمهيد للموضوع برسم صورة ذهنية لما أسفرت عنه حتى الآن الحرب التى شنها اليمين الإسرائيلى المزود حديثًا بطاقة أشد تطرفًا شكلت جميعها حكومة يرأسها بنيامين نتنياهو. أسفرت الحرب حتى ساعة كتابة هذه السطور عن آثار غير قليلة أعرض لها فى العناوين التالية:
أولًا: صارت قضية فلسطين تحظى باهتمام فى الرأى العام العالمى لم تحظَ به قضية أخرى من قضايا عالم الجنوب.
ثانيًا: مقابل هذا الاهتمام غير المسبوق فى السنوات الأخيرة وقع انشقاق، بل عدد من الانشقاقات، داخل إسرائيل. الأدهى وللمرة الأولى ترددت أنباء عن انشقاق أهم وأخطر داخل اليهودية العالمية تناقلته بحذر شديد أجهزة الإعلام الدولية الكبرى.
ثالثًا: تعرض للانكشاف المدى الذى وصل إليه النفوذ الصهيونى فى عدد من قلاعه فى دول الغرب، بلغ الانكشاف أقصاه عندما صار الكونجرس الأمريكى موضوع سخرية، بسبب احتفاله الصاخب والمسرحى باستقبال رئيس وزراء إسرائيل المشتبه فيه عالميًا بارتكاب جرائم إبادة بشرية فى غزة الفلسطينية. كما راح المدى بعيدًا بسبب الغموض الذى اكتست به السياسة الألمانية المؤيدة لإسرائيل تحت كل الظروف وغير عابئة بأى مبالغات فى الجرائم المرتكبة ضد شعب فلسطين. الغموض الذى ولد فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وتضخم عبر السنوات ليصير أحد أهم ألغاز السياسة فى أوروبا المعاصرة ليطرح فى النهاية السؤال: من الذى يحكم فى ألمانيا؟
رابعًا: تأثرت هيبة الولايات المتحدة باعتبارها القطب الأقوى فى النظام الدولى الراهن للأسباب التالية. (1) الدعم الدائم والثابت لإسرائيل خلال تنفيذها الإبادة وتعمدها قتل الصحفيين ورجال الإغاثة الدوليين والمحليين والأطفال. (2) السماح لإسرائيل باستخدام قنابل التدمير الشامل الأمريكية الصنع فى قصف الأحياء السكنية. (3) شل دور ونشاط الأمم المتحدة وبخاصة مجلس الأمن لحرمان فلسطين من قرارات تكفل وقف القتال فى غزة، والسماح لمسئولين ومشرعين أمريكيين بتهديد قضاة محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لمنع إصدار قرارات تدين رئيس وزراء إسرائيل وبعض مساعديه. (4) الطريقة التى أدارت أمريكا بها كل منظمات الغرب لكى تعمل جميعها فى صالح إسرائيل وضد سلامة المدنيين الفلسطينيين. (5) استخدام أقصى أساليب إرهاب الدولة عندما جيشت واشنطن وأرسلت إلى الشرق الأوسط أرمادا بحرية من حاملات طائرات وبوارج ومسيرات لبث الرعب فى عواصم العرب وإيران وتركيا ومنع أى منها من التحرك لمساعدة المقاومة الفلسطينية.
خامسا: بعد عقود من التزام، ولو شكلى، من جانب النخب الحاكمة العربية بعقيدة العروبة لاكتساب شرعية مضافة أو لاقتناع وإيمان حقيقيين، وقع ما يمكن تسميته بعودة الشك أو الظن فى جدواها مفهوما كان أم عقيدة. أزعم أنه حتى هذه اللحظة وعلى امتداد ما يزيد على 330 يوما من عمليات الإبادة فى غزة وامتدادها إلى الضفة الغربية لم تمتد يد أو لسان مسئول إلى «العروبة» كشعار ولا أقول عقيدة يستعين به ضد ضغوط إسرائيل وأمريكا وأوروبا، وبعضها، وللحق، ضغوط آمرة وقاصمة حسب ما أسر به مسئولون لأفراد مقربين.
• • •
تلك كانت بعض الآثار التى نتجت عن حرب الإبادة التى شنتها إسرائيل بدعم كامل معلن من القطب الأمريكى ضد الشعب الفلسطينى، أو تفاقمت بسببها. ولكن لتكتمل الصورة قد يفيد عرض بعض التفاصيل المهمة عن أحوال أهم اللاعبين فى النظام الدولى والقوى الفاعلة فيه خلال اللحظات الحاسمة التى سوف تشهد بزوغ اليوم التالى لهذه الحرب. كلها كانت بين متغيرات عديدة قائمة قبل أن تشن إسرائيل حربها أعرض لعدد منها فى ظنى أنه باقٍ معنا لفترة أخرى غير قصيرة:
أولًا: أمريكا، الطرف الأهم على الإطلاق فى صنع هذه الحلقة من حلقات النكبة الفلسطينية، وبالأصح العربية، قطب مهيمن على النظام الدولى يتواصل انحداره وتتهدد استقراره الداخلى عناصر انشقاق وفوضى كثرت الكتابة عنها فى داخل أمريكا كما فى خارجها. لا شك أن إسرائيل وقوى الصهيونية العالمية تضع فى اعتبارها حساسية ودقة وخطورة الوضع الناشئ عن هذا الانحدار على مستقبل حروبها القادمة ومكانتها ووضعها النهائى فى المستقبل.
ثانيًا: أوروبا، القارة العجوز ولكن متجددة الصبا ولا أقول المتصابية وإن صار يصدق عن بعض تصرفاتها، عادت تواجه أهم مصادر القلق والخطر على مستقبلها، وهى الهجرة وروسيا والخلافات بين القيادات الحاكمة والفورات الأيديولوجية المعهودة والمستجدة والصراعات الدينية الأصل ودولة أو أخرى تتقدم، أو تتأخر، لتلعب دور رجل أوروبا المريض وأتصور أن أكثر من دولة مرشحة الآن لهذا الدور.
ثالثا: آسيا، القارة التى كان يجرى إعدادها لتكون أهم ساحات الحرب الباردة الثانية دخلت حالة "التأرجح" إن صح التعبير. كانت أحداث الشرق الأوسط سببا كافيا فى نظر واشنطن لسحب أساطيل أمريكا من شرق آسيا لحماية إسرائيل باعتبارها الطرف الأهم فى قائمة معادلات أمريكا الخارجية. الصين من ناحيتها لا تتعجل ولم تتعجل. تترك الأمور على نار باردة تنضج لمصلحتها الجيو اقتصادية والجيو سياسية أيضا. تستطيع بكين الاقتراب بحذر من الفلسطينيين دون أن تعرّض مصالحها للخطر وتخترق بهدوء الحواجز الحساسة التى تغلف علاقات إيران بدول الخليج. الصين هناك وليست هناك.
رابعا: تستطيع الصهيونية وإسرائيل وواشنطن والغرب عموما الزعم وبقوة بأن التطبيع أثبت نجاحا لا نظير له بين أدوات تنفيذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بشكل عام. أمكن لإسرائيل خاصة الاعتماد عليه كعامل ردع يفوق بأدائه والتزام أطرافه القدرة العسكرية مهما تنامت وإرادة استخدام القوة إن وجدت. هذه التجربة مع التطبيع خلال أسوأ مراحل الإبادة على امتداد سنة كاملة يجعل أمريكا تزداد تمسكًا بدعم القائم منه وزيادة الضغط لتوسيع دائرته وضم أطراف أكثر إليه. إضافة إلى الدور الفعال الذى لعبه التطبيع فى تشكيل حالات جديدة للصراع يجدر بنا الأخذ فى الحسبان الموقف الساكن فعليًا لجامعة الدول العربية، الممثل الشرعى والوحيد للنظام الإقليمى العربى والناطق الرسمى باسمه.
• • •
هذه المتغيرات الدولية والإقليمية مجتمعة، أو متفرقة، تشكل من وجهة نظرى أهم عناصر البيئة التى يجرى فى ظلها أو بفضلها صنع وإقرار الشكل النهائى لليوم التالى لحرب الإبادة فى فلسطين وتحديد مواصفاته وشروط استمراره وعلاقة كل الآخرين به.