بين حين وآخر تفاجئنا السينما الألمانية بدراما نفسية قاسية فى مشاعرها، مدهشة بتناولها السينمائى وجماليات مفرداتها، ويبقى البطل الأهم بها هو ذلك «السيناريو» الذى يتلاعب بدواخل الشخصيات ودوافعها ونظرتها للحياة ومشهدها اليومى المتكرر وكأنه زمن داخل الزمن .
فى فيلمه «الاحتضار» يغوص بنا المخرج ماتياس جلاسنر فى أعماق تجربة إنسانية دون تجميل أو عاطفة.
سوف نتعلم من خلال حكايتها المؤلمة أصول ونتائج عدم الحب. نحن أمام يوم عادى فى حياة الزوجين المسنين المصابين بأمراض مميتة بين الخرف والسرطان، وأحفاد مدمرين للذات، يتم طرحها فى البداية كصورة خام لمحنة الشيخوخة، بينما المشهد يُفهم فى النهاية على أنه تجسيد لحالة حزينة تعيشها عائلة بأكملها: يبدو الأمر دائمًا كما لو أن شخصًا ما فى تلك العائلة يغرق فى دوامة وكل فرد آخر ينظر فى الاتجاه الآخر حول نفسه.. ترابط ولا ترابط.. عواطف جياشة.. ثم مأزق كبير.. ليبدو الفيلم كتشريح للعائلة الألمانية بلا رحمة.
يتتبع الفيلم الذى تبلغ مدته 180 دقيقة، قصة «ليسى» و«جيرد» والطرق التى يجد بها أبنائهم أنفسهم منعزلين عن واقع الحياة الأسرية. فلا أحد هنا قادر على مواجهة المتاعب الفوضوية التى تصاحب الأزمات والتعبير عن المشاعر، وإيجاد أرضية مشتركة، وبينما يحاول ابن ليسى وجيرد، توم (لارس إيدينجر)، إيجاد ملاذ فى الفن (وهو قائد أوركسترا فرقة موسيقية يتدرب بلا كلل على قطعة تحمل عنوان الفيلم)، كتبها صديقه برنارد (روبرت جويسديك)، وهو شخص مصاب بالاكتئاب ويصر منذ فترة طويلة على أنه يخطط لقتل نفسه يومًا ما، فيما تغرق ابنتهما إخصائية صحة الأسنان إيلين (ليليث ستانجنبرج)، بأحزانها فى تناول الكحول فى نوادى البانك برفقة زميل متزوج (رونالد زيرفيلد) تعيش معه علاقة غرامية من الواضح أنها لن تؤدى إلى أى شىء.
فيلم «الاحتضار» يطوف طوال الأحداث بمثل هذه التعبيرات والمشاهد المثيرة، لنرى كيف تجسد هذه الأسرة الروابط الباردة التى تتناقض مع الحب غير المشروط الذى نربطه عادة بعلاقات الوالدين بالأبناء، إلى الحد الذى يجعل الموت فى هذا السياق بمثابة خلاص.
السيناريو محكم البناء بارع السرد، إلى جانب الجاذبية المثيرة التى يضفيها الممثلون على أدوارهم، يؤدى إلى واحدة من أكثر الصور وضوحا للأسرة المتأزمة باعتبارها مشروعا فاشلا، وكأن الفيلم بمثابة لكمة تنيرالذهن قبل مأساة النهاية الهزلية؛ حيث يقدم المخرج جلاسنر فرصة جديدة لنتأمل أنفسنا.
الحياة والموت وكل ما بينهما موجودان فى هذا العمل، ففى السيناريو، يتحدث الشخصيات عن ذلك الخط الرفيع بين الأصالة والابتذال، وهو الخط الذى لا يمكن تحقيقه إلا عندما يكون كل شىء متوازنا على النحو الصحيح، بحيث يكون العمل الفنى صادقا مع رؤية الفنان ولكنه بسيط وواضح بما يكفى بحيث يمكن للجمهور أن يفهمه بسهولة.
وأنت تشاهد الفيلم، يمكنك بالتأكيد أن تشعر بأن المخرج والكاتب جلاسنر وفريقه ساروا على هذا الخط برشاقة استثنائية. والواقع أنه عندما انتهى مشهد العرض الموسيقى الرئيسى الذى بلغ ذروته فى النهاية، بدا الأمر وكأن الجميع فى الغرفة قد أبطأوا أنفاسهم بما يكفى للسماح بصمت يخيم على المكان.
تصبح الآراء والاعترافات الصادقة موضوعًا مميزًا طوال الوقت، حيث تظهر لاحقًا فى مشهد مذهل تعترف فيه ليسى لابنها توم بأنها لم تحبه حقًا لأنه كان يبكى كثيرًا عندما كان طفلًا، وأنها عاشت لسنوات فى خوف من أن يتضرر من الوقت الذى تخلت فيه، على أى حال، فهى لا تحبه وهو يمتص هذا الكشف بدموع، مدركًا أن هناك برودة جليدية بداخله أيضًا، وهو الميراث الحقيقى له من والدته.
هنا كان الجمهور بجوارى فى صمت مذهول، يراقب الألم العميق الذى كان يعانى منه كلا الشخصيتين. ومن بين كل الإنجازات العديدة التى حققها الفيلم، ربما كان الأكثر إثارة للإعجاب هو القدرة على الحفاظ على النغمة متوازنة عند هذه النقطة الحاسمة بين المأساة والكوميديا فى مشهد تلو الآخر.