عراب كامب ديفيد.. الانقلاب على الإرث المر! - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 يناير 2025 11:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عراب كامب ديفيد.. الانقلاب على الإرث المر!

نشر فى : الأحد 5 يناير 2025 - 6:10 م | آخر تحديث : الأحد 5 يناير 2025 - 6:10 م

عن عمر يناهز المائة عام رحل الرئيس الأمريكى الأسبق «جيمى كارتر»، عراب اتفاقية «كامب ديفيد»، باحتفاء ظاهر تقديرا لقوته الأخلاقية، لا لدوره فى عقد تلك الاتفاقية.

أسست الاتفاقية، التى وقعت عام (1978)، لنوع من السلام بين مصر وإسرائيل إرثه المر ما يزال حاضرا فى حسابات ومعادلات أكثر مناطق العالم اشتعالا بالنيران.

فى مذكرات وزير الخارجية المصرى «محمد إبراهيم كامل» «السلام الضائع» عن مفاوضات وكواليس كامب ديفيد، نسب التنازلات الفادحة التى انطوت عليها إلى تدخلات «كارتر» وتأثيره الكبير على الرئيس المصرى. لم يكن وسيطا ولا محايدا بقدر ما كان منحازا بصورة شبه كاملة للطلبات الإسرائيلية.

الاتفاقية انطوت على جملة من الكوارث ما زالت فواتيرها تسدد حتى الآن. «لم تشر إلى انسحاب إسرائيلى من قطاع غزة والضفة الغربية ولا تضمنت حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره».

كان ذلك داعيا لاستنتاج أثبتت الأيام والحوادث صحته: «لن تؤدى إلى حل شامل، بل ستنتهى إلى صلح منفرد بينما تظل الضفة الغربية وغزة والجولان تحت الاحتلال الإسرائيلى». هذا ما حدث بالضبط.

توقع مبكرا، قبل إعلان نصوص الاتفاقية، أن تفضى إلى عزلة مصرية عن عالمها العربى وتهميش أدوارها. هذا ما حدث أيضا.

فيما يشبه الانقلاب على إرثه بعد خروجه من البيت الأبيض تواترت شهادات منسوبة إليه تنتصر بوضوح كامل للقضية الفلسطينية، التى لم يعرها أدنى التفاتا يعتد به أثناء المفاوضات المطولة، التى جرت فى المنتجع الرئاسى بـ«كامب ديفيد».

نحيت القضية الفلسطينية لتكريس الحل المنفرد مع مصر. لم يعر الرئيس «أنور السادات» أدنى اهتمام باعتراضات وزير خارجيته: «أنت مش سياسى يا محمد».

سمحت الصداقة القديمة بين الرجلين بمصارحات غير معتادة بين الرؤساء ووزراء خارجيتهم، فقد ضمهما قفص اتهام واحد فى قضية اغتيال وزير مالية الوفد «أمين عثمان» أربعينيات القرن الماضى. كما لم يتوقف عند ملاحظات المستشار القانونى للوفد المصرى الدكتور «نبيل العربى»، الذى تولى بعد سنوات طويلة منصبى وزير الخارجية والأمين العام للجامعة العربية.

مضى «السادات» قدما فيما اتفق عليه مع «كارتر»، دون اكتراث بأية ملاحظات جوهرية أجمع عليها الوفد المصرى. جرى التوقيع على الاتفاقية وسط أجواء احتفالية فى حديقة البيت الأبيض غاب عنها الوفد المصرى كله. استقال الوزير احتجاجا بعد العودة من كامب ديفيد مباشرة. بعد شهر واحد نال «السادات» جائزة «نوبل للسلام» مناصفة مع رئيس الوزراء الإسرائيلى «مناحم بيجين»!

بصورة بالغة السخرية وصف الأديب الكولومبى الأشهر «جابرييل جارسيا ماركيز» حصول رجل بمواصفات «بيجين»، بتكوينه الفكرى والسياسى وتجربته فى قيادة عصابات «الهاجاناه»، على أرفع جائزة دولية للسلام مقترحا أن يطلق عليها «جائزة نوبل للقتل»!

لم يحصل «كارتر» على الجائزة الدولية لدوره فى التوصل لاتفاق مصرى إسرائيلى فيما حصل عليها عام (2002) على خلفية أدواره خارج السلطة فى الدفاع عن حقوق الإنسان خاصة فى إفريقيا. كانت تلك مفارقة أولى فى قصة حياة «كارتر».

المفارقة الثانية أن ذاكرة التاريخ احتفظت بالأدوار التى لعبها وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى الأمريكى «هنرى كيسنجر» على عهدى «ريتشارد نيكسون» و«جيرارد فورد» بأكثر مما لعبه هو من أدوار كرست فى نصوص مكتوبة قواعد اللعبة. «كيسنجر» مهندسها و«كارتر» مكرسها.

كلاهما، عاشا حتى المائة واستمر حضورهما العام فاعلا ومؤثرا. الأول، بقوة حضوره الإعلامى والسياسي. والثانى، بقوة تأثيره الأخلاقى والحقوقى.

لم يكن «كارتر» شخصية معروفة ولامعة فى صفوف الحزب الديمقراطى عندما ترشح للموقع الرئاسى، لكن نزعته الأخلاقية كـ«مزارع» قادم من الجنوب أكسبته قوة دفع كبيرة فى السباق الانتخابى مع المرشح الجمهورى الرئيس «فورد»، الذى حمل عبء التطهر دون جدوى كنائب لـ«نيكسون» من آثام فضيحة «ووترجيت».

صادف شعاره الانتخابى: «لا خداع للشعب الأمريكى» الاحتياجات الضاغطة. كانت أمريكا تبحث عن «قديس»، لا مجرد رئيس. بعد أن دخل البيت الأبيض حاصرته الأزمات وتقوضت أية رهانات عليه.

بدا شبه عاجزا فى إدارة ملفات الاقتصاد والنفط والتضخم وجاءت أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين فى سفارتهم بإيران إثر إعلان الجمهورية الإسلامية لتفاقم تدهور صورته.

بدا فاشلا تماما وخسر الانتخابات الرئاسية (1980) فى مواجهة ممثل شبه مغمور «رونالد ريجان» يتقن دور الرئيس أكثر من الرئيس نفسه!

المثير حقا أنه نجح بعد خروجه من البيت الأبيض فى استعادة الثقة العامة به، ارتفعت شعبيته مجددا على خلفية مواقفه الحقوقية والأخلاقية. أخذ سمة «القديس السياسى».. وتراجعت صورة الرئيس الفاشل. كان ذلك استنتاجا عاما تردد على نطاق واسع فى الميديا الأمريكية والغربية إثر إعلان رحيله.

«ما يحدث فى فلسطين كارثة إنسانية وانتهاك لحقوق الإنسان بكافة أشكاله». كان ذلك تصريحا مدويا فى حينه (إبريل 2015) ومكانه (غزة)، التى زارها تضامنا مع محنة أهلها فى الحصار المفروض عليها، باعتباره ناشطا دوليا فى حقوق الإنسان.

فى تلك الزيارة اتهم إسرائيل أمام الكاميرات بـ«سرقة أموال الفلسطينيين».

رغم اللغة غير المعهودة من المسئولين الأمريكيين، سابقين أو حاليين، فى تناول القضية الفلسطينية، إلا أن مظاهر الاحتفاء به تضررت من تصريحات فلسطينيين عاديين: «لسنا حيوانات يأتون لزيارتنا ثم يمضون إلى حال سبيلهم».

لم تبد إسرائيل ارتياحا لنص ومغزى تصريحاته، حاولت عرقلة زيارته لغزة، لكنه كان صعبا منع رئيس أمريكى سابق من دخول الأراضى الفلسطينية المحتلة.

لمرات عديدة ارتفع صوته، رغم وهن المرض الشديد بأثر التقدم فى العمر، منددا بالسياسات الإسرائيلية، التى وصفها بأنها «أبارتهايد»، فصل عنصرى ضد الفلسطينيين يشبه ما كان جاريا فى جنوب إفريقيا ضد مواطنيها السود.

عزا «كارتر» غياب أية عدالة مفترضة فى النظر إلى القضية الفلسطينية لقوى ضغط داخل الكونجرس تمنع أى معارضة لأفعال إسرائيل.

إنه تفسير متأخر للانحياز الأمريكى شبه المطلق لإسرائيل، الذى وصل ذروته فى حرب الإبادة على غزة. يقال ــ عادة ــ إن التاريخ لا يكتب بأثر رجعي، لكنه بانقلابه على إرثه فى كامب ديفيد بدا ظاهرة استثنائية فى الحياة السياسية الأمريكية.