ظهرت فى الآونة الأخيرة نعرة وللأسف من بعض القيادات الدينية تقارن بين الاهتمام الدولى من قضية مسيحيى الشرق والاضطهادات التى يعانونها من الإرهابيين وإدانتهم لها، وبين الاضطهادات التى يعانيها المسلمون فى بعض دول العالم.
الاضطهاد والألم الإنسانى جراء ذلك ليس سلعة تحتمل المقارنة فكل اضطهاد هو اضطهاد للإنسان أيا كان دينه أو عرقه أو جنسه... إلى آخره، فالصعوبات التى تواجه مسيحيى الشرق هى ليست بأمر جديد عليهم فالمسيحية منذ عهدها الأول واجهتها بإيمان وصبر، وتعلّمت من خبرتها المتراكمة كيف تتعايش وتتعامل وتتفاعل مع كل التغييرات السياسية والاجتماعية والثقافية التى توالت عليها عبر القرون وانفتحت عليها ولكنها لم تنصهر فيها، بل أفادت واستفادت ونجحت فى بلورة هويتها الإيمانية والحفاظ عليها على الرغم من التعددية الدينية والثقافية التى حولها من جهة، والصعوبات من جهة أخرى، فقد عاشت مع الوثنية زمن الرومان، ومع اليهود على الرغم من عدائهم الشديد لها، وتعايشت مع البيزنطيين رغم الانقسامات التى آلت إليها ومزّقت وحدتها، كما تمكنت من البقاء مع المدّ الإسلامى مع ما مرت به من فترات صعود وهبوط مع عدد من الحكام، مع ذلك لم تنسَ رسالتها فى مجتمعها فساهمت فى مجال التربية والتطبيب والتكوين الإنسانى وغيرها. ورغم التحديات والصعوبات، فهى مازالت هنا، ومن لا يعتبر ما يدور فى شرقنا من تخويف وتهجير وذبح وقتل وإرهاب أمورا كارثية فهو لا يتعامل مع الواقع بموضوعية، فهذه الأمور ليست موجّهة ضد المسيحيين وحدهم بل للوطن ولجميع مواطنيه، فنحن نرى عددا من الجوامع والمقامات الدينية والحسينيات والأضرحة والمساجد التى دمرتها وفجرتها داعش وعصابات أخرى وهى عشرات المرات أكثر من الكنائس والأديرة التى تعرضت للدمار أو للتدنيس فى السنوات الأخيرة التى قاسى ــ ومازال ــ منها شرقنا العربى، وبخاصة فى العراق وسوريا وليبيا ومصر ودول أخرى.
ونتساءل، هل المسيحية فى المشرق العربى نحو الزوال؟
الجواب هو لا، فالكنيسة ومؤمنوها سيبقون هنا مهما كان هناك من اضطهاد من أناس لا يعرفون الله، ولا يحترمون كرامة الإنسان الذى خلقه الله. فما نراه هو ليس ضد المسيحيين بل ضد الوطن العربى، وهذا مشروع علينا أن نواجهه معا، المسلم والمسيحى، كما تصدينا وواجهنا مثل هذه التحديات معا على مر التاريخ، وإن لم نكن معا، لم ولن يكون هناك كرامة لا لمسلم ولا لمسيحى فى هذا الوطن، يمكن بقاء الملايين، ولكن لا قيمة لهم إن لم يتوافر لهم العيش الواحد بكرامة. من هذا المنطلق، فالمسيحيون لا يمكنهم أن يواجهوا هذا التحدى وحدهم، فلا خوف ولا هرب ولا هرب سينفع، بل التفكير والعمل معا وتقوية أسس كل ما هو مشترك فى تاريخنا وقيمنا، وتقوية وحدتنا الوطنية أمام هذه التحديات الصعبة التى تواجهنا اليوم.
السيد المسيح كان يعرف أن المسيحيين سيكونون أقلية عددية ولهذا قال لهم: «لا تخف أيها القطيع الصغير» (لوقا12 ــ 32).
فماذا يمكن لهذا«القطيع الصغير» أن يفعل؟
ـ ألا يكون حضوره مجرد تراكم أعداد، بل عليه أن يكون فاعلا فى حياة وطنه، وأن يكون حضوره مميزا فى الخدمة والعطاء والمحبة.
ــ عليه ــ مع تصاعد التطرف وحركات التكفير والإرهاب ــ أن يفكر مع شريكه المسلم بعقد عربى جديد يقوم على المواطنة والمساواة والحرية.
ــ عليه أن يضاعف تواصله مع مسيحيى الغرب بهدف مطالبتهم الوقوف إلى جانب الحق والعدل، وتصحيح صورة أخيه المسلم الذى شوهها الجهل من جهة، والحركات التكفيرية ووسائل الإعلام والسياسات المغرضة من جهة ثانية.
ــ عليه أن يكون مستعدا بل داعيا إخوته المواطنين المسلمين إلى حوار صادق وبعقل منفتح وآفاق بنّاءة، إيمانا بأن الحوار أصبح اليوم ضرورة مهمة لا يمكن الاستغناء عنه ولمعرفة الواحد الآخر وبناء جسور من المودة والثقة بين المؤسسات والمواطنين فى حياتهم اليومية.
ــ عليه أن يسعى من أجل وحدة الكنيسة، لأن فى الوحدة قوة وشهادة لخدمة المجتمع الذى هى فيه.
أخيرا، أدعو لعدم تسييس موضوع الاضهادات أو دفع بمقارنات ليس مجالها ولا وقتها.