لقد أصبحت تكنولوجيا الاتصالات، مثل الإنترنت والهواتف الذكية المحمولة والأجهزة العاملة بالاتصال اللاسلكى بالإنترنت جزءًا من الحياة اليومية. وأدى إدخال تحسينات جوهرية على إمكانية الوصول إلى المعلومات والاتصال الفورى، إلى تعزيز الابتكارات فى مجال تكنولوجيا الاتصالات.
لكن لا يوجد مجال للشك بأن تكنولوجيا الاتصالات لها جانب آخر مظلم، فالثورة الرقمية هى قضية عالمية أساسية من قضايا حقوق الإنسان، ولا يجوز تجاهل مخاطرها.
مما لا شك فيه أن المراقبة الجماعية واعتراض الاتصالات الرقمية تؤدى إلى انتهاك الحق فى الخصوصية، وتشكل مساسًا بحقوق أخرى مثل الحق فى حرية الرأى والتعبير والحق فى التماس المعلومات وتلقيها وإذاعتها، كما تؤثر بالتبعية على الحق فى التجمع السلمى وتكوين الجميعات والحق فى الحياة العائلية وخصوصيتها. وهى حقوق ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحق فى الخصوصية.
يعد الحق فى الخصوصية من حقوق الإنسان الأساسية، التى اعترفت به الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة، فنصت عليه المادة 12 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والمادة 17 من العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وكذلك فى العديد من الصكوك الدولية والإقليمية الأخرى لحقوق الإنسان. ويمكن تعريف الخصوصية بأنها «التسليم بحق الأفراد فى التمتع بمجال للتنمية الذاتية، تستند إلى مبدأى التفاعل والحرية، أو حقهم فى مجال خاص يسمح لهم فيه بالتفاعل أو عدم التفاعل مع الآخرين، دون الخضوع إلى تدخل الدولة أو أفراد آخرين».
فى البيئة الرقمية تكتسب خصوصية المعلومات أهمية خاصة، وهذا يشمل المعلومات المتوافرة والمعلومات التى يمكن الحصول عليها عن شخص ما وعن حياته وشئونه، والقرارات المتخذة استنادًا إلى تلك المعلومات.
قد حظى الحق فى الخصوصية فى السنوات الأخيرة باهتمام متزايد من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان وآليات حقوق الإنسان الأخرى بالأمم المتحدة. وجرى لفت الانتباه إلى سياسات وممارسات المراقبة للحكومات داخل وخارج أراضيها، وكذلك ممارسات الدول والشركات التى تعتمد بشكل متزايد على جمع واستخدام وتبادل ومعالجة البيانات الشخصية. كما تم رفع تأثير التقنيات التى تتعدى على الخصوصية على حرية الرأى التعبير والتجمع السلمى والحصول على خدمات الصحة والرعاية الاجتماعية.
قد باتت الجهات الفاعلة على الصعيدين الدولى والإقليمى تدرك أكثر فأكثر التحديات الماثلة، وقد بدأت تتحرك بناءً على ذلك. وأنشا مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة ولاية المقرر الخاص المعنى بالحق فى الخصوصية فى يوليو 2015. وفى العديد من القرارات، أعرب مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة عن بواعث قلقهما بشأن المخاطر التى تهدد الحق فى الخصوصية نتيجة التدابير التى تتخذها الدول من أجل فرض المراقبة.
لقد اعتمدت الجمعية العامة فى ديسمبر 2013 دون تصويت القرار رقم 68/167 بشأن الحق فى الخصوصية فى العصر الرقمى، وأكدت فى هذا القرار أن حقوق الإنسان خارج الفضاء الإلكترونى يجب أن تحظى أيضًا بالحماية ذاتها فى الفضاء الإلكترونى وطالبت جميع الدول بأن تحترم وتحمى الحق فى الخصوصية فى الاتصالات الرقمية.
من ناحية أخرى، أثار تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مخاوف مماثلة بشأن بروز المزيد من التقنيات كثيفة البيانات ذات الطبيعة المؤثرة، مثل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى. ويعترف تقرير المفوضية أن «التطورات التقنية تنطوى على مخاطر كبيرة بالنسبة إلى الكرامة الإنسانية والاستقلالية والخصوصية وممارسة حقوق الإنسان عموما إذا لم تتم إدراتها بعناية فائقة».
كما أشار مجلس حقوق الإنسان، فإن «استخدام الذكاء الاصطناعى الذى يتطلب معالجة كميات كبيرة من البيانات، غالبًا ما يتعلق بالبيانات الشخصية، بما فى ذلك سلوك الفرد والعلاقات الاجتماعية والتفضيلات الخاصة والهوية، ويمكن أن يشكل مخاطر جسيمة على الحق فى الخصوصية، لا سيما عند توظيفه فى تحديد الهوية أو التتبع أو التنميط أو التعرف على الوجه أو التنبؤ السلوكى».
يمكن أن يساهم استخدام الذكاء الاصطناعى بشكل كبير فى تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها. ومع ذلك، فإن الآثار المترتبة على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى على الحق فى الخصوصية للفرد وفى قطاعات المجتمع المتزايدة لم يتم تناولها بشكل مناسب من قبل الدول والشركات التجارية والمجتمع المدنى والمنظمات الدولية.
يُرجح بأنه يجب أن يكون تصميم وتطوير ونشر وتقييم تقنيات الذكاء الاصطناعى وفقًا لالتزامات الدول بموجب القانون الدولى لحقوق الإنسان ومسئوليات المؤسسات التجارية، وفقًا لمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان. وتشمل هذه الالتزامات بالامتناع عن استخدام الذكاء الاصطناعى بطرق تنتهك الحق فى الخصوصية أو حقوق الإنسان الأخرى، وضمان أن أى تدخل فى الحق فى الخصوصية يتوافق مع مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب.
فرضت تداعيات جائحة كورونا عمقا إضافيا لإشكاليات الذكاء الاصطناعى على الحق فى الخصوصية، مع تزايد اعتماد المجتمعات على وسائل التواصل التكنولوجى لتلقى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرهما. كما جاء الكشف عن عمليات التجسس العابرة للحدود التى أثارت اهتمام آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لتفرض عمقا إضافيا لحجم الأزمة ومخاطرها.
إن العولمة اختزلت الزمان والمكان وأصبح العالم قرية صغيرة، وأصبحت خصوصية الإنسان، فى ظل الذكاء الاصطناعى، مهددة بالاقتحام. كما أن الذكاء الاصطناعى يتطور بشكل سريع وغير مسبوق ومن دون الحد الأدنى من الضوابط، وقد تحمل تكنولوجيات الذكاء الاصطناعى آثارًا سلبية، بل كارثية، إذا ما تم استخدامها دون إيلاء اعتبار كافٍ لكيفية تأثيرها على حقوق الإنسان. ويتطلب ذلك ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة فورًا من أجل حماية حقوق الإنسان فى سياق استخدام الذكاء الاصطناعى.
عضو الأمانة الفنية للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان