ضايقنى، مثل كثيرين أن الرئيس باراك أوباما لم يصف الوجود الإسرائيلى فى الضفة الغربية وغزة ــ فى رسالته إلى العالم الإسلامى من تحت قبة جامعة القاهرة ــ بأنه احتلال، ولم ينطق بعبارة كنا نود أن نسمعها.. وهى أنه على إسرائيل أن تعترف بأن الهدف النهائى لعملية أو مفاوضات السلام مع الفلسطينيين هى إنهاء هذا الاحتلال حتى تقوم الدولة الفلسطينية.
واستفزنى بعض الشىء مثل كثيرين أيضا إسهاب أوباما فى الحديث إلى المسلمين والعرب عن محرقة اليهود على يد النازيين، وهذه جريمة نكراء لا ناقة للمسلمين والعرب فيها ولا جمل، اللهم تطوع قلة قليلة منهم لإنكار حدوثها، أو إنكار حدوثها بالكيفية التى تروجها الدعاية الصهيونية، ثم استنكارنا جميعا ــ عربا ومسلمين ــ لأن يدفع الفلسطينيون وبقية جيران إسرائيل العرب ثمن هذه المحرقة قتلا وتشريدا وسلبا للأرض والكيان، لكن الاستفزاز صار أقوى عندما استخدم أوباما لفظ «المعاناة» أو Suffering باللغة الإنجليزية لوصف الكارثة التى حاقت ولاتزال تحيق بالفلسطينيين، فى حين أنه استخدم لفظ مأساة Tragedy باللغة الإنجليزية عند حديثه عن محرقة اليهود.
وعلى الرغم من هذين المأخذين اللذين أتفهم أسبابهما، فإنى ــ بصراحة ــ من جملة، أو فى مقدمة المتفائلين، بشخصية أوباما، وبعصر أوباما، وبرسالة أوباما إلى العالم الإسلامى، وأتوقع ــ دون مواربة ــ نتائج سريعة وجيدة على مستوى القضية الفلسطينية أولا، وعلى مستوى العلاقات العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة، وعلى مستوى الإصلاح الداخلى، ولكن هذه النقطة الأخيرة فى حاجة إلى حديث مستقل فيما بعد.
ما هى أسباب هذا التفاؤل؟
ألمحنا إلى أن بعض هذه الأسباب يتعلق بشخصية أو ظاهرة أوباما، ولكن هذه الظاهرة يجب أن تؤخذ فى سياقها الأمريكى، وفى السياق الدولى عموما، وفى سياق التطورات الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
فى السياق الأمريكى تمثل ظاهرة أوباما قطيعة مع كثير من تقاليد الحكم والسياسة فى التراث الأمريكى من ناحية، ومن ناحية أخرى تمثل هذه الظاهرة ذروة انتصار طال انتظاره لتيار أصيل فى التاريخ الأمريكى.
القطيعة هى مع تقاليد العنصرية، وسيادة ثقافة البيض الأنجلوساكسون البروتستانت (الواسب)، ومع تقاليد صناعة وتمويل الرئيس الأمريكى وغالبية السياسيين الأمريكيين بواسطة جماعات المصالح والضغط المنظمة ذات الموارد المالية الضخمة، وإذا كان لون أوبام الأسود، وخلفية طفولته الإسلامية تغنينا عن إثبات مظهر القطيعة مع العنصرية، ورفض من ليس أبيض أنجلوساكسونيا، فإن بزوغ ظاهرة أوباما من خارج جماعات المصالح والضغط التقليدية ــ أو على الرغم منها ــ قد يحتاج إلى إىضاح بعض الحيثيات، نجملها فى تمويله من جيوب الشباب، والفقراء، ومن تمثيله لأجيال ما بعد ثورة المعلومات، ومن تعبيره عن الحلم الأمريكى فى أنقى مثالياته حيث لا تحيزات طبقية أو عنصرية، أو ثقافية، ثم إنه هو نفسه نتاج بيولوجى واجتماعى وثقافى لتمازج وتفاعل الحضارات والأجناس، بل وحتى الأقاليم الجغرافية.
أما أن هذه الظاهرة تعد ذروة الانتصار لتيار أصيل فى التاريخ الأمريكى، فإنه بكل هذه الخلفيات والرمزيات سالفة الذكر توا كان اختيارا ثبت أنه واعد لتيار الليبرالية الاجتماعية فى الداخل الأمريكى، وتيار ليبرالية العلاقات الدولية فى ميدان السياسة الخارجية. وهما فى الأصل تيار واحد، بدأ مع الرئيس ويلسون فى أثناء الحرب العالمية الأولى، وازدهر مع فرانكلين روزفلت فى حقبة الكساد العظيم، وما تلاه من حقبة الحرب العالمية الثانية، ثم بزغ حينا مع الدهر مع جون كيندى، حتى استعاد بعض بريقه فى بدايات حكم جيمى كارتر، وبيل كلينتون، إلى أن منى بهزيمة كادت تكون ماحقة فى السنوات الثلاث التى أعقبت هجمات الحادى عشر من سبتمبر الإرهابية بفعل الدعاية والإرهاب الفكرى للتشكيل العصابى المكون من المحافظين الجدد.
والثنائى ديك تشينى نائب الرئيس بوش الابن، ودونالد رامسفيلد وزير دفاعه الأول، إذ أدى ذلك الإرهاب الفكرى استغلالها لأحداث 11 سبتمبر إلى إخراس كل رافضى المذهب الامبراطورى للمحافظين الجدد، وجاءت إعادة انتخاب جورج بوش لتوحى بأن هزيمة الليبراليين نهائية، أو على الأقل سوف يظل هذا هو الحال عدة عقود، إلا أن الفشل فى العراق بفضل المقاومة أولا، وبذيوع الجرائم والخطايا الأمريكية ثانيا، وبتحول التوازن الاستراتيجى فى الخليج لمصلحة إيران ثالثا، سرعان ما فتح أعين الأمريكيين على الحقيقة.. وأخذ سيل الفضائح والأكاذيب والإفلاس الخلقى للمحافظين الجدد وإدارة بوش ــ تشينى ــ رامسفيلد يتدفق أنهارا من الكتابات، والوثائق، والتحقيقات.. والصور.
ثم جاءت الأزمة المالية، وتحولت إلى اقتصادية، ثم تطورت إلى أزمة اجتماعية سياسية، لتثبت هى الأخرى أن التطبيقات الداخلية لمذهب المحافظين الجدد ليست أقل سوءا فى نتائجها وآلامها من تطبيقات مذهبهم فى السياسة الدولية، وباختصار جاء أوباما رئيسا لتلبية مطلب غالبية الأمريكيين فى قيام دولة السوق الاجتماعى فى بلادهم داخليا، ولتطبيق مبدأ القيادة الجماعية فى الشئون الدولية، على أنقاض مشروع الهيمنة الامبراطورية، والإملاء العسكرى، وفلسفة أو مذهب صراع الحضارات.
إذن فإن أوباما وراءه وبجانبه فى الداخل الأمريكى قوى اجتماعية واقتصادية جاءت به، ومستعدة لمساندته، وكذلك وراءه وبجانبه فى العالم مثل هذه القوى ومن ثم فالمسألة ليست فقط أنه رجل مثالى، أو رئيس «كاريزمى» ولكن المسألة هى رجل جاء فى ظرفه المناسب تاريخيا تطبيقا لمقولة أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل «الرجل والظرف» فى شرحه لظاهرة جمال عبدالناصر فى سياقها التاريخى المصرى والعربى والدولى، وبمعنى آخر.. فإن الإجابة عن التساؤل: هل يستطيع أوباما تغيير الأوضاع داخل أمريكا وفى العالم لتنفيذ سياسته؟..
الإجابة هى نعم يستطيع، ليس لأنه ساحر، أو لأنه قائد سياسى قادر على الإلهام فقط، حتى وإن كانت الولايات المتحدة دولة مؤسسات راسخة وقوى عاتية ــ كما يقال عن حق ــ ولكن لأن كثيرا من هذه الأوضاع تغيرت بالفعل، أو فى طريقها نحو التغير، ولأن هذا التغير هو الذى جاء بأوباما، وصنع الظاهرة الأوبامية، ومع ذلك فلا ينبغى التهوين من شأن المعركة التى سوف يخوضها ضد «العصابات واللوبيات».. ونحن شهدنا وسجلنا بعضها فى مقالات سابقة، من أول حملات تشينى هذه، إلى رسائل أصدقاء إسرائيل فى الكونجرس إلى البيت الأبيض.
وفى عجالة نستعرض السياق الدولى للظاهرة الأوبامية، وقد تطرقنا إلى بعض جوانبه فى السطور السابقة، لذا نكتفى بالقول هنا إن الرجل يلبى حاجة عالمية، وأمريكية فى ذات الوقت إلى عالم تضامنى لمواجهة المشكلات التى تهدد النوع البشرى كله، وكوكبه الأرض، من تناقص الطاقة التقليدية، إلى الأزمات الاقتصادية، إلى الكوارث البيئية، والانتشار النووى، والفقر والتخلف، وهو يأتى فى أعقاب ثبوت فشل سياسة الانفراد، التى جعلت الولايات المتحدة شبه معزولة، وشبه خارجة على القانون الدولى تحت قيادة تلك العصابة التى تحدثنا عنها.
ونصل إلى السياق الإقليمى فى الشرق الأوسط الذى تبزغ فيه الظاهرة الأوبامية، ودون إنكار للمنطلقات الأخلاقية فى اهتمام الرجل بالقضية الفلسطينية، وكذلك دون إنكار للمنطلقات الأخلاقية، ولتأثير وعى النشأة والظروف الخاصة على نظرة أوباما للمسلمين والدين الإسلامى، فإن الموقف الاستراتيجی فى المنطقة يجعل من التزام البيت الأبيض فى شخص الرئيس أوباما ببداية جديدة مع المسلمين عن طريق الحل العادل للمشكلة الفلسطينية تطورا منطقيا، بل وحتميا، لأنه يتفق مع المصلحة الأمريكية المباشرة، قبل أن تكون مسألة مبدأ، وقضية عادلة، ورفعا لظلم تاريخى طال أمده على الشعب الفلسطينى، فلقد جربت إدارة بوش، وحلفاؤها الإسرائيليون أكثر من مرة فرض حل نهائى لنزاع الشرق الأوسط بالقوة العسكرية.
وكانت ذروة هذه التجارب فى الحرب ضد حزب الله اللبنانى فى صيف 2006، ثم الحرب على حركة حماس فى غزة فى الشتاء الماضى، وفى هاتين الحربين استخدمت إسرائيل أقسى وأقوى ما فى ترسانتها العسكرية من أسلحة ــ عدا أسلحة الدمار الشامل ــ ثم كانت النتيجة هزائم فاضحة، رغم طول مدة الحربين، ورغم جدال المكابرين هنا وهناك، ولم تكن مصادفة مطلقا أن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس خرجت بوجهها الصفيق فى المرتين لتعلن أن هذه الحرب هى موعد ميلاد الشرق الأوسط الجديد، أى الشرق الأوسط الذى لا توجد فيه مقاومة لإسرائيل، والذى تهيمن عليه الآلة العسكرية الإسرائيلية لحساب أو بالاتفاق مع المحافظين الجدد الأمريكيين..
لم تكن فى الأمر مصادفة، وإنما كانت بشارات رايس الحمقاء تعبيرا عن استراتيجية وخطط مشتركة، فإذا أضفنا إلى ذلك الفشل أنه أدى إلى مزيد من الاحترام لإيران، وإلى توسع نفوذها الإقليمى بما أصبح يهدد النظم المعتدلة، فإن النتيجة الحتمية تصبح البحث عن مسار جديد، والمسار الجديد هو التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، بالحد الأدنى المقبول فلسطينيا وعربيا وإسلاميا، وهو دولة فلسطينية مستقلة فى الأراضى المحتلة منذ عام 1967، وصولا إلى تسوية وتطبيع علاقات بين جميع الدول العربية والإسلامية وبين إسرائيل، ودخولا إلى صفحة أو حقبة جديدة فى العلاقات بين المسلمين والإسلام وبين الولايات المتحدة.
بهذا القدر من التفاؤل المحسوب، نستطيع أن نتفهم أسباب المأخذين ــ اللذين بدأنا بهما هذا المقال على رسالة أوباما إلى العالم الإسلامى من تحت قبة جامعة القاهرة، فالرجل ما كان يمكن أن يضع كل شروط التسوية العادلة المطلوبة من إسرائيل علنا فى رسالة موجهة إلى المسلمين من أكبر عاصمة عربية وإسلامية، وإلا كان شديد الحمق، لأن ما تكرس عبر ستين سنة من الارتباط العضوى بين مؤسسات أمريكية بعينها وبين إسرائيل والصهوينية العالمية ليس قابلا للتحدى على كل الجبهات مرة واحدة، ويكفى فتح ثغرة فيه كبداية، وقد اختار الرجل مطلب وقف الاستيطان ليكوّن هذه البداية وتلك الثغرة لذا لم يكن ضروريا ــ من وجهة نظر الحسابات السياسية المحضة ــ أن يتحدث فى هذه المرحلة عن انهاء الاحتلال، وإزالة المستوطنات، كذلك كان ضروريا ــ من وجهة النظر تلك ــ أن يستفيض فى الحديث عن المحرقة اليهودية لينزع جزءا أو أجزاء من أسلحة إسرائيل واللوبى الصهيونى فى المعركة التى سيشتعل أوارها هذه لا محالة.
وتبقى الروح العامة للخطاب، وحرارة العاطفة فى المفردات، والصياغات، واللهجة، نحو الفلسطينيين واضحة.. لكن الأهم فى نظرى هو التزامه الشخص بتحقيق السلام العادل.. وبعدم إدارة الظهر مرة أخرى لأمانى الفلسطينيين فى الكرامة والدولة الوطنية..
إنه وعد أوباما الذى يصدر بعد 92 عاما من وعد بلفور بإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين، وهو وعد مقطوع أمام العالم كله، وتعهد صريح للمسلمين جميعا، ويأتى بعد أن سحب أوباما التزام الولايات المتحدة بوعد بلفور الثانى، أى رسالة الضمانات التى كان قد وجهها سلفه بوش إلى رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أرييل شارون.. بضمان يهودية إسرائيل، بما يعنى طرد عرب 1948، وعدم عودة أى لاجئ فلسطينى، وكذلك بضم الكتل الاستيطانية فى الضفة إلى إسرائيل.
المقابلة بين وعد أوباما ووعد بلفور تظهر أقوى من مقابلة السياق التاريخى للأول بالثانى منهما، فالثانى صدر فى خضم الوثبة الاستعمارية على تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية)، والثانى صدر فى خضم أزمة حادة بين المسلمين والغرب بسبب الكارثة التى سببها بلفور ووعده.
بقى سؤال أخير: أما يوجد تحفظ على هذا التفاؤل والإجابة بلى.. فهناك دائما احتمال بالفشل، وهناك احتمالات أخرى، أبشعها الخطر على حياة أوباما شخصيا.