قالت، اليوم ستسمعنى حتى ألقى بآخر ما عندى. لن تقاطعنى بالعظات والنصائح. لن تردد مقولتك الأثيرة إنك بتجاربك وصداقاتك أعرف منى وأعلم لأنه حتى ان تشابهت بعض ظروفى مع ظروف آخرين مروا عليك أو توقفوا عندك فأنا بطبيعة نشأتى أختلف، وبأسلوب تربيتى أختلف، وبخلطة عقلى المرتب وعواطفى المتدفقة لابد أن اختلف. أنت نفسك كثيرا ما تعجبت كيف اجتمع فى شخص واحد عقل مرتب وعاطفة متوقدة ومتدفقة.
* * *
تعرف، قبل أى شخص آخر، إننى تزوجت عن حب. أنجبت طفلى الأول فوق موجة عواطف دافئة وصادقة، وبعده أنجبت أطفالا بحكم العادة أو الظروف أو القدر. توقعت، برهبة مصحوبة بالشك، أن يوما سيأتى يبرد فيه الحب ويحل شىء آخر مكانه. لا أحد قبلى وجد، ولا أنا نفسى وجدت، اسما يليق بهذا الشىء الآخر الذى حل عند غيرى ثم عندى. حل ولم أستطع منعه أو طرده. جاء واثقا من نفسه ومعه آليات أقلمته وأساليب تعامله معى. فرض أن أتغير فتغيرت. أعترف لك أننى لم أبذل جهدا فى الممانعة وأننى ربما استبشرت راحة إن تغيرت، فتغيرت. لا أخفيك أن التغير امتد إلى بعض نظراتى إلى حياتى فاكتست بغير قليل من الفلسفة مع ميل غريب إلى القبول بالأمر الواقع. أقول القبول به، ولا أقول الاستسلام له، وسوف آتى لك بعد قليل بما يشرح لك ما أقول وما لا أقول.
* * *
تعلمت فى الكتب عن الإنسان وخلقه ونشأته وحياته المبكرة، أنه بدأ حياته فردا ثم اقترن بامرأة فجاءته بأطفال. هكذا تكونت عائلته الصغيرة. لست متأكدة تماما إن كان فى تدرجه نحو هذا الوضع كان يتقدم أم يتخلف. كل ما أنا متأكدة منه هو أننى بعد سنوات غير قليلة من الاقتران والانجاب وتشكيل جماعته الصغيرة ثم الجماعة الأكبر قليلا فالأكبر كثيرا، أشعر بأننى أعود تدريجيا إلى حالة الإنسان الفرد. ها أنا اكتشف الآن أن الحياة عموما وربما المعاصرة بوجه خاص تباعد بين أعضاء الجماعة الواحدة ولا تقارب بينهم، والدلائل على ما أقول غير قليلة. أول دليل هو المرأة التى تجلس الآن أمامك لتفاتحك.
* * *
أصارحك القول، ولا تغضب من فضلك أو تدع ظنونك تذهب بعيدا، أصارحك بأن زوجى الذى تزوجت عن حب لم أعد أرى فيه الرجل الذى أحببت ذات يوم فتزوجت. دعنى أيضا اعترف لك أيها الصديق العزيز أننى لم أعد الزوجة التى أحبها. تقول نضجتما ونضج الحب بينكما فاتخذ أشكالا وصفات ومعان وحقوق وواجبات أخرى غير تلك التى تعودتما عليها. أرد عليك بأمانة، نعم صحيح ما تقول، ولعله صحيح أيضا الرد عليك بأنه، أى الحب، تراجع ليتخذ لنفسه مكان الذكرى ومكانتها، فهو الآن لا يتجاوزهما بعد أن فقد الصلة بنواحى قوته وجاذبيته وتمكنت منه قوى التنافر والغواية. لا تستهين يا صديقى بقوة جهاز «الآيباد» ونفوذ الهاتف النابغة، فكلاهما أزاح جانبا عادات ومواقع جلوس واستلقاء وأطاح بما كان استقر من مواعيد أحاديث الحب والتودد. سقطت الحدود والقيود التى كثيرا ما كانت تحدد خصوصيات كل عائلة وتمنع الاقتراب منها إلا بشروط وتوقيتات. اختلط الحابل بالنابل. كل حابل تفرد عن جماعته الصغيرة، وكذلك كل نابل. انحسرت الصداقات وصار لكل صديق وصديقة للعائلة مساحة تكبر وتصغر مع اتساع وانكماش العلاقة بين الزوج والزوجة.
* * *
دعنى أخبرك بما هو غير خاف عليك. أنا مثل كثير من الزوجات لم أعد أتعرف بالدقة الكافية على «الوشائج» التى تربط أفراد عائلتى الصغيرة بعضهم بالبعض الآخر. لقد تلاشت أو كادت تتلاشى الوشائج التى كانت تربط بين أفراد العائلة الممتدة، وفيها أمى وأبى وجدتى وجدى وأعمامى وأخوالى وعماتى وخالاتى. تمر سنوات ولا أرى أغلبهم، حتى المناسبات المتعارف عليها لم تعد مناسبة لاجتماعنا. أخشى أن يصير لعائلتى الصغيرة ما صار لعائلتى الممتدة. سمعتنى أقول «أخشى»، هل أنا صادقة حقا فى خشيتى، أم أسايرك حتى لا أفقد نصيبى فى هذه الصداقة الثمينة. لا تسىء الظن بى إن قلت لك أننى لست متأكدة إن كنت ما أزال حريصة على بذل التضحية فى سبيل استمرار هذه الجماعة الصغيرة، عائلتى. طفل بعد آخر شب ونضج ونزح عنا. لم يبق معى إلا الرجل الذى تزوجت عن حب. حتى نحن لم يتبق فى علاقتنا ما يؤكد استمرار هذا الحب بالمواصفات نفسها التى احتل بها مرحلة من مراحل شبابى. أترانى أظلم هذا الشىء المسمى حبا، أم أظلم نفسى والرجل الذى أحببت بكثرة السؤال عما إن كان حقا حبا أم نزوة لم أترك لها الوقت اللازم لتهدأ وتبرد. يؤلمنى السؤال.
فالرجل الذى أظن أننى وقعت فى حبه ذات يوم لا يزال إنسانا طيبا عفيف اللسان كريم العطاء. كذلك أولادنا فقد نجحوا وإن اعتقدوا أن نجاحهم مكافأة مجزية على الحب الذى أسبغته عليهم والرعاية التى تفانيت فيها وتعويض سخى عما فاتنى من فرص ضاعت وطموحات لم تتحقق ودرجات عليا من الاستمتاع والاسترخاء لم يسعفنى الوقت للوصول إليها. تبعثرت بنا الطرق فتفرقنا. صدقنى، أنا لا اعرف بالدقة، أو حتى بالتقريب والتخمين، كل ما يدور فى ذهن زوجى كما كنت أعرف فى سابق الزمان، وبالتأكيد لا أعرف ما دار ويدور فى أذهان أولادى منذ أن تركونى إلى الجامعة ثم إلى الوظائف ونساء أخريات. أؤكد لك أن لا أحد فيهم مهتم بدرجة معقولة بما وصلت إليه أحوالنا كجماعة صغيرة، كان اسمها العائلة. صحيح أنه لا يفوتهم تبادل التهنئة فى أعياد البلاد فالفيسبوك يذكرهم بها، ولا يتأخرون فى ارسال صور أحفادنا وهم رضع وصورهم يوم تخرجهم.
* * *
أشكرك على عدم مقاطعتى. الآن انهى هذه المفاتحة بتساؤل عما إذا كنت واحدة بين قلة من النساء، أم أننى مثل الكثرة الغالبة التى أسمع عنها. لا أريد أن أكون فى نظرك رقما فى إحصائية أو عينة فى دراسة اجتماعية. أريد منك فقط أن تعرف أن كثيرات فى مثل ظروفى يعشن حالة حنين عميق إلى نوع العاطفة التى صبغت حياتهن فى زمن مضى. هن فى حاجة إلى «شىء» يجدد تمسكهن بالحياة، ويستعيد لهن قدرة الاستمتاع بأجمل وأحلى ما فيها..
***
نهضت الصديقة بحيوية دافقة وعيناها تلمعان بالرغبة فى الاطمئنان على مصير رسالتها. اطمأنت فخرجت.
سجلت المفاتحة كتابة مضيفا جملة واحدة اختم بها: انتبهوا أيها الأزواج ففى بيوتكم مقدمات ثورة.