أصدر وزير التعليم د. طارق شوقى عددا من «القرارات» الجريئة التى توحى بنقلة نوعية وشيكة فى نظام التعليم المصرى. وقد احتوت التصريحات الأخيرة على عدد كبير من النقاط لا يمكن التطرق لها جميعا. أما الحديث عن تغيير نظام الثانوية العامة، وهى هم الطبقة الوسطى بأطيافها، وتغيير مناهج التعليم فى المرحلة الابتدائية والطفولة المبكرة وهو يمس أغلب قطاعات الشعب ريفه وحضره فيستحقان وقفة للتأمل. وتلك البشرى بانتهاء الدروس الخصوصية واختفاء «الصراع على المجموع من قاموس التعليم»، فهو ما تتمناه معظم الأسر المثقلة ماديا ومعنويا بهذه الظواهر.
هناك ثلاثة جوانب أساسية نأمل من الوزير تدبرها وإيضاحها من أجل المضى قدما فى هذه الإصلاحات. أولا، فيما يتعلق بإنهاء الصراع على المجموع، قد يبدأ الإصلاح بتغيير نظام الثانوية العامة ولكنه لا يكتمل إلا بإصلاح نظام التنسيق فى الجامعات. فالمصريون لا يتصارعون ويعانون فقط بسبب نوعية الامتحانات وطريقة وضعها. هم يتصارعون لأنهم يعلمون أن درجة واحدة هى الفرق بين كليتك المفضلة وكل شىء آخر. إن ما طرح إذن قد يكون دافعا مهما للتفكير فى إصلاح نظام التنسيق وخلق توافق اجتماعى (ووزارى مع التعليم العالى) على نظام جديد. أما بالنسبة لتفاصيل نظام الثانوية العامة الجديد من استبدال الامتحانات الحالية «بمشروع للتخرج، وامتحانات ذات أسئلة متعددة الاختيارات، وتقويم تراكمى على ثلاث سنوات»، فهو تصور يبعث على التفاؤل من أن الوزارة تسير نحو إصلاح حقيقى. وقد يأخذ تنفيذه فترة أطول مما تم اقتراحه لأنه يتطلب تكوين فريق كبير من خبراء التقويم ومتخصصى المواد والتحضير الجيد لما سيترتب على هذا النظام من تغيير فى المناهج وطرق التدريس وتدريب المعلمين عليها. ويتضمن ذلك التدبر فى أفضلية نظام السنة الواحدة أم اثنتين أم ثلاث وفى إعطاء فرص للإعادة من عدمه. ولكن دعونا نعترف أن معظم النظم الدولية تعتمد على الامتحانات بشكل كبير وأن الدخول إلى الجامعات يعتمد على الدرجات فى كثير من دول العالم، ولكن المهم أن هذه الامتحانات تقيس معارف ومهارات وقدرات أخرى مختلفة تماما عما يحدث فى مصر. فلنقل إذن إنه بغض النظر عن تطوير نظام التنسيق فإننا نساند الوزير تماما فى تغيير نظام التقويم إذا انطوى على ذلك تغيير جوهرى فى المهارات التى يقيسها. ونتمنى أن تتم الاستعانة بعدد واسع من الخبراء المحليين والدوليين وتجريب النظام الجديد على السياق المصرى قبل تعميمه. أما تطبيق التصحيح الإلكترونى للامتحانات فيتطلب تفادى ثورة المعلمين الذين ينتظرون «مكافأة الامتحانات» من العام للعام والتى تساوى لبعضهم دخلا أهم من المرتب الشهرى. ولن نكون أول من يطالب بإدماج هذه المكافآت فى المرتب الرسمى للمعلم وما يترتب على ذلك من شفافية وتعزيز للمساواة بين المعلمين. ولكن على الوزير أن يكون مستعدا للمعارك المحتملة التى ستترتب على أية تغييرات تمس دخل المعلم (أو تمس مميزات تحصل عليها فئات معينة من الموظفين).
***
ثانيا: ننتظر من الوزير المزيد من التفاصيل عن معنى «تنظيم الدروس الخصوصية فى إطار تشريعى»؟ لقد صرح الوزير من أسابيع أن صناعة الدروس الخصوصية تدر أرباحا، أو تكلف الأسر المصرية، ما يقدر بثلاثين مليار جنيه سنويا. كيف سيتسنى تعويض المعلمين وكل من ينتفع من هذا الاقتصاد الموازى عن خسائرهم؟ وما هى التدابير المختلفة التى ستتخذها الوزارة لتفادى مصير المحاولات السابقة للقضاء على الدروس؟ نعلم أيضا أن دولا أخرى (مثل كوريا الجنوبية) حاولت القضاء على الدروس ولم تنجح، وينطبق هذا على «دروس الطبقة الوسطى» التى يغذيها التنافس الشديد على الدرجات والدخول للجامعات. ولكننا نتمنى أن يهتم الوزير أيضا بالنوع الآخر من الدروس، وهو السائد فى نصف أو ثلاثة أرباع النظام التعليمى المصرى وهى الدروس شبه الإجبارية التى يعتمد عليها المعلمون فى المدارس الأفقر والتعليم الفنى والتى تدمر التعليم وتفرغه من أى معنى، لأن الطلبة يضمنون الحصول على الملخصات وأسئلة الامتحان أو ببساطة إمكانية الغش من خلال التحاقهم بالدروس، وتنتفى أية حاجة للتعلم أو للتدريس ويصبح النظام كما يصفه البعض: «تدفع تنجح، تغش تجيب مجموع».
ثالثا: وهى النقطة الأهم والأعم، هى البناء على محاولات الإصلاح السابقة. وفيما يخص القضية الجوهرية من إصلاح حقيقى فى سنوات التعليم الأولى فى المناهج وطرق التدريس والتقويم، نتمنى من مستشارى الوزير أن يكونوا قد تدبروا أسباب فشل «نظام التقويم الشامل» ومبادرات «التعلم النشط»، وجوانب الضعف فى تجارب تطوير تعليم الطفولة المبكرة وتجارب «القرائية» وغيرها من المبادرات ومن ثم وضع خطط تطوير المناهج الابتدائية فى ضوء هذه التجارب السابقة. ماذا تعلمنا أيضا من البرنامج التى ركزت على «تنمية التفكير النقدى»، والذى يفترض أنه سيبنى عليه التطوير الجديد؟ نعلم كم يحب التربويون التفكير النقدى. وأنا منهم كم كنت أحب أن يقدم أحد طلبتى الجامعيين بحثا نقديا. ولكننى لم أنس ما أدركته فى أول سنوات التدريس أن التفكير النقدى مهارة متأخرة (أو متقدمة) للغاية. فما هو إسهام الطالب النقدى إن لم يبن كتابته على فهم عميق للنظريات السائدة ودراية بالتجارب المماثلة وإلمام واسع بحقائق وخصوصيات الحالة التى يطبق عليها بحثه؟ قال لى معلم كان يعمل فى مدرسة فى قرية صغيرة أيضا شيئا لن أنساه. قال إنه ترك التدريس لأنه لم يكن يستطيع أن يدرس. كان فى يده كتاب من عالم وأمامه تلاميذ من عالم آخر. واستدرك، بل كان هناك تلميذ واحد يمكن التدريس له: «عشان كان بيعرف يتعامل مع الكتاب». كان التلميذ الوحيد الذى يجيد القراءة والكتابة فى هذه المدرسة الفقيرة. أما الباقون فالغش سبيلهم الوحيد، وفى أفضل الأحوال، حفظ بعض العبارات يلقنها لهم المدرس. وليس خافيا على الوزير إحصائيات الوزارة نفسها عن انعدام قدرات القراءة والكتابة لدى أكثر من ثلث تلاميذ التعليم الأساسى وضعفها لدى الباقين. نحن إذن مع الإصلاح من القاعدة وبدءا من المهارات الأساسية، وإصلاح طرق تعليم اللغة العربية بالذات. ونحن مع تنمية التفكير النقدى بكل تأكيد طالما أعطينا اهتماما كافيا لتمكين التلاميذ من «التعامل مع الكتاب». وإذا كانت لنا نصيحة محددة فى هذا الصدد فهى الاستعانة بالزخم من الخبراء من داخل وخارج الوزارة ممن قضوا عقودا فى كل جوانب التطوير سواء فى العاصمة وديوان الوزارة يعملون مع أكبر الخبراء الدوليين أو فى أقصى قرى الصعيد يحاولون التطبيق على أرض الواقع.
***
وأخيرا وليس آخرا، يجب أن نسأل من أين سيتم تمويل هذه الإصلاحات الضرورية وقد سمعنا أنه لا زيادة فى ميزانية التعليم، مع العلم أن معظم الميزانية (وزياداتها) تذهب للرواتب، ومعظم برامج التطوير كانت تقوم بها الجهات المانحة (قبل أن يتم التضييق عليها أخيرا)؟ على أية حال فقد تحمس الكثيرون لتصريحات الوزير الواعدة وطلب منى البعض التعليق عليها وكنت قد اعتدت ألا ألتفت كثيرا لتصريحات وزراء التعليم. فهل سيجبرنا أخيرا وزير للتعليم أن نأخذ تصريحاته على محمل الجد وهل سيجيب عن التساؤلات المختلفة المطروحة حولها؟