الكورونا والتعلم عن بعد: هل يمكن أن نعيش بدون مدارس؟ - هانية صبحي - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكورونا والتعلم عن بعد: هل يمكن أن نعيش بدون مدارس؟

نشر فى : الإثنين 23 مارس 2020 - 10:00 م | آخر تحديث : الإثنين 23 مارس 2020 - 10:00 م

هل جلس أطفالك من المدارس ومكثت معهم فى البيت لأكثر من أسبوع؟ هل بدأت نظرتك للمدرسة ودورها تختلف قليلا؟ ربما رأيتِ فائدة المدرسة على الأقل فى ألا يضيع نصف النهار فى الصراع حول استخدام الأطفال للهاتف المحمول وألعابه؟ هل جعلك ذلك أكثر أم أقل ميلا لأفكار تطوير التعليم التى تتمحور حول التعلم عن بعد وتقليص أو إلغاء دور المعلم والمدرسة؟ هناك سؤال محورى تواجهنا به أزمة فيروس الكورونا المستجد: هل ستدفعنا الأزمة إلى الاستثمار فى الخدمات الطبية والتعليمية والنهوض بها، أم سندفن رءوسنا فى الرمال ونظن أننا يمكننا الاستمرار بنفس الأوضاع المتهالكة؟ تتعالى الدعوات فى البلدان الأوروبية لضخ استثمارات ضخمة وهيكلية فى القطاع الطبى وأن موجات التقشف التى أصابت القطاعات الطبية فى الكثير من بلدان أوروبا فى العقود السابقة من أهم أسباب تفاقم الأزمة. هل سنستجيب نحن أيضا لهذه الدعوات أم نرى الحل فقط فى المكوث فى البيت والدعاء ألا تطالنا العدوى؟ من الإيجابى أن الأزمة بدأت فى إعادة بعض الهيبة والاهتمام بالأطباء وبالعلم لدى الكثير من المصريين، فى خضم الشائعات والخرافات. لكن الفائدة الحقيقية لأزمة كورونا هى أن نوظفها نحو إصلاح شامل للمنظومة الطبية فى مصر ومن أهم جوانبها علاج إشكالية هجرة الكفاءات الطبية للخارج هروبا من الأجر الزهيد وظروف العمل الصعبة.
***
وفيما يخص التعليم، نرى مع هذه الأزمة فى أنحاء مختلفة من العالم من يروج للانتقال للتعلم عن بعد. وهذا الاتجاه موجود منذ سنوات خاصة فيما يتعلق بالتعليم الجامعى وتبشر به شركات كبرى تعد بأرباح هائلة للمؤسسات التعليمية من تطبيق برامج التعلم عن بعد (وما يتتبعها من توظيف عمالة مؤقتة بدلا من الأساتذة الكبار). ولكن ما زال الإقبال على هذا النوع من التعلم محدودا نسبيا حتى وإن قدمته أكبر الجامعات. وذلك فى إطار دراسات عن ضعف جودة الكثير من برامج التعلم عن بعد وعدم استكمال الكثير من الملتحقين للبرامج التى بدأوها (تصل نسبة «التسرب» لـ٧٠٪ فى بعض الإحصاءات المتوفرة) وافتقاد الجانب التفاعلى سواء مع المعلم أو مع الزملاء ودوره فى التعلم وفى بناء شبكات المعارف. ويدور الكثير من هذا الجدل حول الجامعات، أما بالنسبة للمدارس، فلا توجد إلا تجارب محدودة للغاية على المستوى العالمى لتطبيق التعلم عن بعد. ومع ذلك يجب أن نتساءل هل ستدفعنا أزمة كورونا لتهميش المدارس وتحقيق أرباح لشركات وبرمجيات التعلم عن بعد أم إلى التزام أكبر بتطوير المدارس والمعلمين؟
حتى الآن لا يوجد فى مصر من يروج لانتقال المدارس على المدى الطويل للتعلم عن بعد، وإنما يتم ذلك حاليا كإجراء وقائى مؤقت لاحتواء العدوى. وفى الدول الأوروبية التى أوقفت المدارس تم اللجوء أيضا من الأسبوع الماضى لبعض محاولات التعليم عن بعد من خلال التلفاز. ولكن توقف الدراسة فى المدارس جعل المجتمع يتخوف من أى توجه مستقبلى نحو التعلم عن بعد (أو تقليص غير منضبط للعاملين فى التربية والتعليم كما نرى فى بعض الشائعات) وجعلنا ننتبه بشكل غير مسبوق لدور المدرسة الاجتماعى والاقتصادى والتربوى والحمائى. تتيح لنا أزمة كورونا فى الحقيقة أن نرى بمزيد من الوضوح موقع المدرسة المحورى فى المجتمع الحديث. المدرسة هى جزء من نسيج اقتصادى ومجتمعى تعمل فيه المرأة، راغبة أو مرغمة، ولا يتسنى فيه أن نعتمد كليا على الأجداد والأقارب لرعاية الأطفال، ولا تتوفر دائما الحقول أو الحدائق والملاعب الآمنة التى تمكن الأطفال من تفريغ طاقاتهم وتعلم المهارات الحركية والاجتماعية الأساسية والاختلاط مع أطفال آخرين.
***
من أول الآثار التى شعر بها المجتمع المصرى بجميع أطيافه المقتدرة والأقل حظا هو علاقة المدارس بعمل المرأة واعتماد الأسرة عليه. ويكفى أن نعلم أن هناك ١٢ مليون امرأة مصرية معيلة تتحمل أعباء المعيشة وحدها، وأن ثلث الأسر المصرية تشكل المرأة المصدر الرئيسى لدخلها (أغلبهن أرامل ومطلقات)، ذلك بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى تقرير ٢٠١٧. وهذا بخلاف ملايين السيدات اللاتى يساهم دخلهن فى رفع أو الحفاظ على المستوى الاجتماعى للأسرة، حتى إن لم يكن عملهم هو المصدر الرئيسى لدخل الأسرة. كيف يمكن أن نتخلى إذن عن المدارس أو نقوض دورها من دون حوار مجتمعى موسع عن تبعات ذلك على الأسرة والاقتصاد وسلامة الأطفال ونموهم؟ ويعد أحد أهم الأهداف تاريخيا التى تم من أجلها فرض تعليم الصغار فى فرنسا مثلا هو أن الدولة ارتأت أنها الأقدر على توفير تنشئة صحية وعقلية ومهاراتية للأطفال من معظم الأمهات (الفقيرات) اللاتى لم يحصلن على حظ من الوعى والثقافة (فى رأى الدولة) ولكنهن قادرات على القيام بأعمال أخرى فى المجتمع بل وأيضا راغبات فى تحصيل أجور عن هذه الأعمال لمواجهة أعباء الحياة. كانت المدرسة ورياض الأطفال إذن نوع من التخصص فى الأدوار: جهات أقدر على تدريب وتأهيل ميسرات ومعلمات وفقا للأسس التربوية وتوفير أماكن آمنة لتنشئة الأطفال. أما معظم السيدات فهن أقدر على القيام بأعمال أخرى تحتاج الأسر لدخلها ويحتاجها المجتمع (هذا بالإضافة إلى أنهن يتوقع منهن أن يستكملن الدور التربوى للمدرسة فيما تبقى من ساعات النهار والليل). هل نحن مستعدون لتفكيك هذا التوزيع للأدوار؟ هل نناقش أصلا هذه القضايا ونعى بأهميتها وتبعاتها؟ هل سنكفل لكل امرأة معيلة من الـ١٢ مليونا فى مصر دخلا يغنيها وأسرتها عن العمل؟ أو على الأقل للملايين اللاتى يقمن برعاية أطفال أو أحفاد فى سن المدارس؟ هل نحن مستعدون لإعادة تأهيل كل أم أن تكون معلمة ومربية لمدة ٢٤ ساعة وهل أتحنا لها الملاعب العامة الآمنة والتقنيات التعليمية وهل دربناها على أساليب الضبط والتحفيز التربوية السليمة؟ وهل يستطيع الأهالى فعلا المكوث فى البيت أم سيتركون الأطفال فى الشوارع أو وحدهم فى البيوت. أضف إلى ذلك اعتماد أكثر من ١١ مليون طالب فى مصر على الوجبة المدرسية، التى تعد من أهم أركان الحماية الاجتماعية فى مصر، فى سياق يعانى فيه حوالى ثلث الأطفال من التقزم الناتج عن سوء التغذية. ثم أضف إلى ذلك أيضا أهمية الحملات الصحية التى تنفذ فى المدارس، بالرغم من محدوديتها. الهدف إذن أن تنبهنا الأزمة لضرورة تقوية المدرسة كمؤسسة محورية للتنشئة، وتوجيه الجهود باتجاه إصلاح وتقوية الدور الغذائى والصحى والتربوى للمدارس.
***
سؤال التعلم عن بعد، بجانب تحفظاتنا السابقة على تأثيره على اللامساواة وعلى أساليب تطبيقه فى مصر، يثير هذه المرة تسأولات فلسفية واجتماعية واقتصادية عميقة ومخاوف من احتمالات لتغييرات اجتماعية غير مدروسة وغير مسبوقة. ولا شك فى ضرورة إدخال تغييرات على منظومة المدرسة التقليدية، ولكن فى اتجاه تقويتها وليس إضعافها وتفكيكها. المدرسة هى المكان الذى يجب أن نجد فيه متخصصين فى التعامل مع الأطفال وتوجيههم وتحفيزهم على التعلم والسلوك السليم. المدرسة هى البناء الآمن النظيف الذى نحب أن يتفاعل فيه أبناؤنا سويا لساعات عدة من كل نهار. وهو المكان الذى يجب أن يجد فيه الأطفال الأمان والمساحة للحركة والإبداع والمعاملة الرءوفة والتنشئة السليمة والتوجيه العلمى. وهى للكثير من طلاب مصر، مصدر مهم للتغذية والرعاية الصحية. ستمر أزمة كورونا لا محالة، ولكن الأهم أن نخرج منها بالتزام أكبر نحو المدرسة وتطوير وتقوية دورها.
باحثة متخصصة فى مجال تطوير التعليم
الاقتباس:
من أول الآثار التى شعر بها المجتمع المصرى بجميع أطيافه المقتدرة والأقل حظا هو علاقة المدارس بعمل المرأة واعتماد الأسرة عليه. ويكفى أن نعلم أن هناك ١٢ مليون امرأة مصرية معيلة تتحمل أعباء المعيشة وحدها.

هانية صبحي باحثة متخصصة فى مجال تطوير التعليم
التعليقات