عادة ما يواكب موسم دخول المدارس تقارير عن التكدس فى الفصول، وتهالك المرافق الصحية، وتراكم القمامة أمام المدارس الحكومية، ولكن مع أزمة كورونا تتخذ هذه الظواهر بعدا جديدا يوضح العلاقة بين البنية التحتية للمدارس والصحة البدنية والنفسية للأطفال وقابليتهم للتعلم، ويجبرنا على التحرك سريعا نحو الحل، فليس مقبولا ألا يجد معظم الطلاب فى مصر مرافق لغسل اليدين أو الحد الأدنى من التهوية والمساحة فى الفصل، فما الحال إذا كان ذلك فى خلال جائحة عالمية، وقد رأينا اهتمام الدولة بالتدابير الصحية فى لجان امتحانات الثانوية العامة هذا العام، وننتظر أن يمتد ذلك الاهتمام خارج تلك الشريحة الصغيرة التى لا تمثل أكثر من 8% من الطلاب فى المنظومة، ونأمل أن تشكل أزمة كورونا دفعة قوية لتطوير البنية التحتية للمدارس، ولكن أن يتم ذلك فى إطار رؤية جديدة لإصلاح المنظومة القائمة، وقد تم الإعلان هذا العام بالفعل عن خطط طموحة لإنشاء فصول جديدة فى ظل استثمارات حكومية غير مسبوقة تهدف لخفض كثافات الفصول، ولكننا أوضحنا فى المقال السابق أوجه التردى الأخرى التى تعانى منها المدارس وما تسببه من انهيار فى مخرجات التعلم وتفشى الأمية بين الطلاب، والهدف الآن هو عرض عدد من الحلول التى تسهم فى بناء مدارس نظيفة وجميلة ومتطورة، كما يصبو الشعار المكتوب على الكثير من مدارسنا.
***
زادت أزمة كورونا من وعى الكثيرين لخطورة ما تعانى منه المدارس من تكدس وانعدام للتهوية السليمة وإمكانيات التباعد الجسدى ومن قصور شديد فى منظومة النظافة والصيانة. لذا فإن أى خطط لتطوير المدارس يجب أن تتضمن توفير الموارد البشرية والمادية والنظم الإدارية اللازمة لعلاج هذا القصور، ويبدأ ذاك من توفير عمالة كافية وثابتة للنظافة وتوفير الأدوات والمنتجات اللازمة للتنظيف، وردا على ما قد يتردد فى هذا الصدد، فلسنا الدولة الوحيدة فى العالم التى قد يتم فيها سرقة الصابون مثلا، ولكن توجد نظم يمكن أن تحد من مثل هذا التجاوزات، ولا يعد هذا تبريرا لحرمان الأطفال من النظافة والحفاظ على صحتهم، ونحتاج لإصلاح موازٍ لمنظومة الصيانة الدورية (إصلاح مواسير أو مراوح أو مقاعد) من حيث توظيف وتدريب عمالة كافية على مستوى المدرسة والإدارة التعليمية وتسهيل إجراءات الاستعانة بفنيين للصيانة. وسيتطلب ذلك بلا شك رفع ميزانيات النظافة والصيانة للمدارس القائمة وتلك التى سيتم بناؤها من الآن.
وبخلاف جودة المرافق، فإن المشكلة الأساسية التى تواجهها منظومة بناء المدارس وتؤدى لتفاقم أزمة التكدس هى عدم توفر الأراضى المطابقة للمواصفات الحالية، سواء فى الأحياء الحضرية المزدحمة أو بالقرب من المناطق الزراعية. وقد كانت الكثير من المدارس الجديدة فى السنوات الماضية تبنى حيث يتبرع المواطنون بالأراضى وليس على ما تخصصه الأجهزة الرسمية من أراض أو حيث يوجد الاحتياج الأكبر، وتشير التصريحات الرسمية للحاجة إلى بناء ربع مليون فصل جديد، وهو عدد ضخم يوضح مدى تفاقم الأزمة على مدى العقود السابقة وعدم جدوى أى اعتماد على التبرعات فى حلها. لذا ننتظر أن تواكب هذه الخطط الطموحة حلول مؤسسية جديدة يتم صياغتها وتفعيلها من خلال تشاور وتعاون وثيق بين المحليات والوزارات المعنية تفتح الباب أمام توسع كبير فى تخصيص الأراضى لبناء مدارس أو تحويل مبان قائمة لمدارس. ويمكن الاستناد فى ذلك للتجارب العالمية التى مكنت الكثير من الدول المتكدسة بالسكان أن توفر فصولا كافية للطلاب. ويجب التأكيد على أهمية المرونة فى المواصفات حسب السياق المحلى بناء على مشاورات واسعة مع جميع الأطراف المعنية لتحديد ما هو أساسى ولا غنى عنه من مواصفات فى الأراضى والتجهيزات وما هو مرن ويمكن تطبيق بدائل مختلفة له بحسب كل سياق واحتياجاته وموارده. وستقترح الأطراف المعنية العديد من الحلول التى قد تناسب سياقات محلية دون أخرى، مثل اشتراك أكثر من مدرسة فى نفس الملاعب أو استغلال مبانٍ أو ملاعب مراكز الشباب القائمة أو استخدام الباصات المدرسية للوصول لمدارس أبعد أو المصاعد فى مبان عالية الأدوار. ولكن يجب أن تكون هذه المرونة فى إطار معايير ونظم وميزانيات مدروسة بعناية وموضحة بشفافية لجميع الأطراف. ويستلزم تحقيق هذه المرونة والشفافية مقدارا من اللامركزية وإعادة توزيع المهام على المستوى المحلى، من خلال مراجعة للآليات شديدة المركزية لعمل هذا القطاع وإعادة توزيع مهام إجراء المناقصات وتنفيذ المشروعات والرقابة الفنية والمالية والصيانة. ويتطلب ذلك الاستفادة من التجارب السابقة للامركزية حيث تم تفويض بعض مسئوليات الصيانة إلى المستوى المحلى، ولكنه لم يكن مصحوبا بالموارد أو التدريب الكافيين أو إعادة ترتيب الإجراءات الإدارية وتبسيطها. ونتج عن ذلك أن الكثير من المدارس تعجز عن صرف مخصصات الصيانة المتاحة لها بالفعل، حتى وإن كانت تحتاجها بشدة، فيتفاقم بذلك تهالك الأثاث وقصور المرافق الصحية. ومن المتوقع أن يؤدى هذا التوزيع الجديد للمهام لخفض كبير فى الهدر الذى تسهم فيه المنظومة الحالية وما يشوبها من مزاعم فساد.
***
وأخيرا، وفقا لتصريحات رسمية، سيؤدى الاستثمار الجديد هذا العام إلى خفض متوسط الكثافة فى مصر من 47 إلى 46 طالبا فى الفصل. وقد يبدو هذا تغييرا طفيفا للغاية لن يؤثر على العملية التعليمية ولا يبدو مقياسا قويا للنجاح. بل أن 46 لا يزال يقرب من ضعف متوسط الكثافات (24 طالبا) فى دول مماثلة. فما النجاح فى أن تكون فصولنا بها 22 طالبا أكثر من الفصول فى الهند؟ ولذلك فإننا نحتاج لتحديد أوضح لأولويات بناء المدارس بما يتيح للجهات المعنية إبراز جهودها وفعاليتها. فيجب استهداف تقليص عدد الفصول التى بها كثافة أكثر من 90 وأكثر من 70 و60 إلخ... حتى تختفى تماما هذه الظواهر، مع التركيز الشديد على السنوات الأولى للتعلم التى تحقق الاستفادة الأكبر من خفض الكثافات. ويجب أن نستهدف خفض أعداد الطلاب فى مدارس الفترات التى تحرم الطلاب من وقت كافٍ للتعلم داخل الفصل ومن الأنشطة خارجه، والتوسع فى بناء مدارس صغيرة فى القرى، حيث تشير البيانات الرسمية إلى أن ما يقرب من 23% من قرى مصر محرومة من التعليم الأساسى. ونحتاج لخفض عدد الطلاب الذين يعانون من مرافق وتجهيزات غير مناسبة من حيث: المساحات داخل الفصول وأماكن اللعب والمرافق الصحية وقصور التهوية والأثاث والمعامل. فالمقترح تحديدا أن ترتبط خطط البناء الجديدة بأهداف: تقليص أعداد المتأثرين بـ 1ــ الكثافات الأعلى و2ــ تعدد الفترات و3ــ قصور المرافق والتجهيزات، و4ــ خاصة ممن هم فى رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية والمناطق المهمشة و5ــ أعداد الطلاب الذين لا توجد مدرسة ابتدائية فى نطاق كيلومتر واحد من بيوتهم (فى غياب نظام الحافلات المدرسية).
***
ولا تنفى أهمية تطوير البنية التحتية ما أكدناه مرارا من ضرورة إصلاح رواتب المعلمين وتأهيلهم وتوزيعهم. ولكنها تنبع، كما أظهرت أزمة كورونا فى جميع أنحاء العالم، من اعتماد الأسر الشديد على المدرسة كمؤسسة لتعليم وتربية الأطفال، وليس على التعلم عن بعد أو الدروس الخصوصية (التى تتركز فى المناطق الحضرية والثانوية العامة). ولكى تؤثر الاستثمارات الجديدة فعلا على مستقبل التعليم فى مصر وعلى صحة الأطفال والأسر، سيستلزم ذلك: إصلاح منظومة النظافة والصيانة، وتطوير آليات تخصيص الأراضى، ومرونة وشفافية مواصفات البناء والتجهيز، وإعادة تنظيم مهام التخطيط والتنفيذ والرقابة على المستوى المحلى. وتنبثق هذه التوصيات من دراسة كنت قد أتممتها بدعم وتعاون مع حلول السياسات البديلة (APS) بالجامعة الأمريكية، وأنتج (APS) أيضا فيديو متحرك قصير لتلخيصها وتقرير استقصائى يعرض آراء وتجارب الأطراف المعنية فى هذه القضايا.