من اللافت للنظر صدور العديد من الأغانى المصورة خلال السنوات الماضية تحمل رسائل من التحفيز والمثابرة والتى عادة ما يتم إطلاقها فى شهر رمضان من كل عام. وقد تعرض هذا النوع من الأغانى للنقد من بعض المعلقين بل وسخرت أغانٍ أخرى من الصورة الوردية والأفكار الاستثنائية والإرادة التى تقدمها هذه الأغانى فى واقع من اللامساوة والظروف المعيشية الصعبة.
• • •
كللت هذه الأغانى هذا العام أغنية «جوايا نور» التى يعود فيها حمزة نمرة إلى جانب محمود العسيلى بإنتاج مبهر وعرض بهيج. وتطرح لنا الأغنية مرة أخرى إشكاليات وثنائيات هامة: النظرة الرومانسية مقابل واقع يزداد صعوبة، التنوع مقابل اللامساواة، الأمل والطموح مقابل اليأس وانسداد الأفق. بل قد تشير الأغنية ورواياتها البصرية لمعانى سياسية ودينية واجتماعية أبعد وأوسع استقبلها بعض المشاهدين وربما لم تلفت نظر البعض الآخر.
• • •
لكن أول ما يمكن ملاحظته أن هناك جمهورا واسعا أحب وتفاعل مع الأغنية (وسأتعامل معها على أنها عمل فنى حتى إذا كانت فى نفس الوقت تمثل إعلانا ترويجيا للجهة التى تمولها). فعلى موقع يوتيوب وحده نجد أنها حققت أكثر من 63 مليون مشاهدة ولم يمضِ على إطلاقها أكثر من 3 أشهر (هذا بخلاف من شاهد الأغنية فى التلفزيون أو سمعها فى الراديو). ومن نظرة سريعة على تعليقات اليوتيوب نرى أن هناك تفاعلا واسعا من أنحاء العالم العربى مع الأغنية وكلماتها والصور التى تقدمها، وبالتبعية مع مصر و«ناسها وفنانيها ومناظرها الطبيعية» التى تطوف بها الأغنية وتشير إليها. ولا أعلم إذا كان منتجو الأغنية كانوا قد تخيلوا لها جمهورا عربيا أو دورا إقليميا أو سياحيا ولكنهم وصلوا لمثل هذا الدور بشكل ما.
• • •
ومن اللطيف واللافت فى هذه التعليقات أن هناك من يتعامل مع هذه الأغنيات كأغانى امتحانات ينتظرونها من العام للآخر ويتمسكون بها أوقات المذاكرة للاستمرار فى البذل والتركيز. ولا أعرف إذا كان منتجو هذا المحتوى يوجهونه بالتحديد لفئة الشباب الأصغر سنا بل والأطفال، ولكن ظنى أن الصور المقدمة تجذب الأطفال بالفعل وتحوز على اهتمام الشباب صغير السن.
• • •
ومن هنا أحببت أن أفكك بعض الشىء هذا التضاد بين الأمل والواقع المرير. ومن واقع عملى مع الشباب الصغير فى السياقات التعليمية لا يسعنى أن أغفل قيمة التشجيع والإيجابية فى بحر من تكسير الهمم والتعنيف يتعرض له صغارنا بشكل يومى، (أشرت لجوانب منه فى مقال سابق). فمن هذا المنطلق وحده يمكننا أن نشعر بالامتنان لأى رسالة تثمن الإنسان ومجهوده وقيمته وقدرته، بالذات إذا كانت موجهة للصغار. هذا الفن له جمهوره وهذه الرسالة لها من يستجيب وهذه الصور والمعانى جاذبة لأنها تلبى حاجة إنسانية ووجدانية للأمل وإحساس الإنسان بقيمته. ومن جانب آخر، فإن ما رآه البعض تصوير وردى للواقع رآه آخرون بقدر من الغصة لأن الأغنية تتحدث صراحة عن الظلام (وتصوره بطرق إبداعية) والأسوار والظروف الصعبة، مما قد يمثل إقرارا بالدخول فى أزمة اجتماعية عميقة. وربما تكون هذه المسحة الواقعية هى ما زادت من مصداقية وشعبية أغنية هذا العام على وجه الخصوص.
• • •
والأغنية المصورة تحمل معنى آخر شديد الأهمية ولا يخلو من الإشكالية وهو معنى التنوع (diversity) وتقبل وتضمين الآخر المختلف عنا. فالأغنية تصر، كما تفعل الكثير من الأغانى (والإعلانات) المماثلة فى الفترة السابقة، على تصوير طوائف متنوعة من المجتمع. ويمكننا أن نرى بوضوح نماذج من الأغنياء والفقراء، وساكنى الريف والحضر، والمهنيين الصياديين والرعاة والمروج والحمام فى الأرياف، والحرفيين والفنانين، كما الأطفال والشيوخ، والمرأة والرجل، وتعرض لنا الأغنية بوضوح شديد المرأة ترتدى الخمار أو الحجاب ومن لا ترتديه، كما المرأة فى المنزل تنقى الأرز أو تنشر الغسيل والمرأة على الشاطئ تلعب اليوجا وتركب الأورجوحة وتقرأ الكتب. وقد يكون البعض قد رأى فى ظهور حمزة نمرة نفسه احتفاء بالتنوع السياسى واحتواء رمزى ما للتيارات السياسية المختلفة فى المجتمع سواء كانت تعبر عن جيل الثورة أو الشباب المتدين أوغيره. وبالتأكيد، فإن من أرق وأرقى رسائل هذه السلسلة من الأغانى هو تصويرها لأصحاب الإعاقات فى إطار أطياف الشعب. وذلك فى صور من الاستثنائية والإنجاز كما فى صور من البهجة واللعب والحق فى المرح والحياة.
• • •
ولكن التنوع له أيضا جانب خلافى. ويعد البعض خطابات التنوع كطريقة لإخفاء أو تجميل واقع اللامساوة والظلم الاجتماعى والتمييز وتصويره بصورة إيجابية رومانسية حالمة، كأن الفقر والتهميش هو مجرد اختلاف يتحتم علينا أن نقبله ونتعايش معه بمرح وبهجة لا أن ننقده ونحاربه. وقد يدفع منتقدو رسائل التنوع الحالمة أنه فى سياق منع أو مصادرة الحديث عن اللامساواة يصبح الاحتفاء بالتنوع نوعا من التغييب، وفى غياب الحديث عن الظلم أو التمييز تصبح خطابات التنوع تصديرا لصورة وردية تنفى الصراع والاختلاف. ولا شك أن هناك بعض التأثر هنا بالاتجاهات العالمية للشركات الإعلانية التى أصبحت تؤكد على تصوير التنوع لكى تنفى عن نفسها اتهامات العنصرية أو الإقصاء ولكى تجتذب طوائف أوسع من العملاء. ولا شك أن هناك مقاما للحديث عن الظلم واللامساوة ومقاما للاحتفاء والتضمين والتمثيل لمختلف الفئات الاجتماعية. ولذلك فإنه بالنظر للأغنية كفن وليس كخطاب سياسى موجه لا يسعنا إلا أن نثمن هذا العرض للتنوع ونقدر هذه الرسالة الراقية والسامية بل ونحزن على أجيال لم يعرض لها هذا التنوع بطريقة جذابة وإيجابية مما ينمى لديها قدرا من الاحترام والوعى بالتنوع والتفاوت فى القدرات الجسدية والثقافات والعادات داخل المجتمع الواحد. ومن وجهة النظر التعليمية مرة أخرى فإن عرض هذا التنوع وتنمية إحساس مختلف الفئات أن الخطاب السائد يمثلهم ويضمنهم هو فى ذاته يغذى مشاعر الانتماء والتعايش.
• • •
أخيرا، يمكننا أن نتساءل إذا كانت رسائل التحفيز والتنوع تخاطب مزاج طبقة اجتماعية معينة أو طريقة تفكير بعينها. فهل المحافظون اجتماعيا يقبلون بتصوير المرأة غير المحافظة ويعتبرون هذا فنا إيجابيا أو تعبيرا مبهجا عن الشعب؟ هل تخاطب هذه الأغانى فئات اجتماعية تحتفى بقيم الحرية الشخصية واحترام عادات الآخر وتعدد الاختيارات الحياتية؟ هل تخاطب طبقات اجتماعية متميزة تؤمن بالاستحقاق للنجاح بناء على العمل والبذل (بينما قد تنجذب طبقات اجتماعية أخرى لمعانى النجاح السريع والعنف والغلبة)؟ لا توجد لدى قرائن عن شعبية هذه الأغانى لدى الفئات الاجتماعية المختلفة، ولكن دراسات عديدة تشير إلى أن الأشخاص الأكثر حظا (من التعليم والدخل مثلا) أكثر ميلا للاعتقاد بأن المرء يحصل على ما يستحقه فى الحياة وفقا لمجهوده، بينما الأقل حظا أكثر ميلا للاعتقاد أن الحياة ليست عادلة وأن العمل الجاد ليس هو سبب النجاح أو الفشل. ومع وجود استثناءات لأى قاعدة ونسب متفاوتة لمن يعتقدون فى الإرادة والعمل بين مجتمع وآخر، فحتى إذا كانت هذه الأغانى سيقبل عليها بشكل خاص طبقات اجتماعية معينة، فقد يكون من الإيجابى تعرض الطبقات الأكثر حظا بطريقة جذابة لهذا للتنوع الموجود فى المجتمع، خاصة فى إطار ما نراه من العزل المتزايد بين الطبقات والاختلاط فى دوائر «الناس اللى شبهنا». وفى النهاية، بينما لا يجب أن نتجاهل النظرة النقدية لخطابات التحفيز والتنوع، لا يمكن أن ننفى أننا جميعا نحتاج للأمل والتضمين والتعايش والبهجة والنظرة الوردية.. وأن نسمع من حين لآخر أن «جوانا نور مابينطفيش».