لم يكن فى الأمر مفاجأة، إلا للذين يريدون أن يروه كذلك.. أى الأذكياء الذين يديرون عملية الاتصال السياسى لأمين السياسات بالحزب الوطنى بالرأى العام..
هؤلاء وحدهم هم الذين فوجئوا بأن شعبية مبارك الابن كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية لم ترتفع فى استطلاعات الرأى التجريبية التى ينظمونها سرا، وبصفة غير رسمية، وفقا لما نشرته «الشروق» صباح الأربعاء الماضى، وأضاف إليه الكاتب الكبير فهمى هويدى فى عموده بالصفحة الأخيرة لـ«الشروق» يوم السبت الماضى.
طبقا لما نشر فى الصفحة الأولى يوم الأربعاء، فإن شعبية أمين السياسات بالحزب الوطنى لم تزد على 9٪، ولذلك أوقف الاستطلاع قبل أن يمتد إلى محافظات أخرى غير المحافظات الثلاث التى أجرى فيها، وطبقا لما كتبه الأستاذ فهمى هويدى، فقد سبق أن أجرى استطلاع مماثل منذ 4 سنوات ــ بصورة سرية أيضا ــ بواسطة المركز القومى للبحوث الاجتماعية، وجاءت نسبة التأييد لترشيح جمال مبارك للرئاسة فى حدود 10٪.
لم تكن فى النتيجة مفاجأة، لسببين رئيسيين لا يريد الأذكياء فى فريق أمين السياسات أن يعترفوا بهما، هذان السببان لا يتعلقان مطلقا ــ كما يقال ــ بالصفات الشخصية لجمال مبارك التى لا نعلم، ولا يعلم عنها المستطلعة آراؤهم الكثير، كما أنهما لا يتعلقان أيضا بمؤهلاته العلمية ولا حتى بخبرته السياسية، ولكن هذين السببين ينبعثان من عمق الضمير المصرى، الذى يرفض مبدأ التوريث، والذى يرفض الاستذكاء عليه، بما يصل إلى درجة استغفاله.
فيما يتعلق بنفور الضمير المصرى تلقائيا من مبدأ التوريث، إذا أتيحت له الفرصة للاختيار والتعبير الحر، فإن هناك على الأقل سابقتين جديرتين بالتوقف أمامهما طويلا، الأولى هى ترشيح على فهمى باشا لخلافة شقيقه الأصغر مصطفى كامل فى زعامة الحزب الوطنى عام 1908، ولم يكن على فهمى باشا غريبا على الحزب، بل كان من مؤسسيه، ومن أهم قياداته، ولكن أكثرية أعضاء الحزب رفضوا اختياره زعيما للحزب، لا لشىء إلا لأنه أخو مصطفى كامل، دفعا لشبهة الوراثة والتوريث، واختير بدلا منه محمد فريد.
وقد تكررت هذه السابقة بعد وفاة زعيم ثورة 1919، ومؤسس حزب الوفد وزعيمه غير المنازع سعد زغلول باشا، فقد كان أبرز المرشحين للخلافة هو فتح الله بركات ابن شقيقة سعد زغلول، ولكن أعضاء الهيئة العليا للوفد، والأغلبية الكاسحة أجمعوا على استبعاد بركات باشا لذلك السبب وحده، أى لقرابته لسعد زغلول، مضافا إليه قوة شخصية، وثروة بركات باشا، وهى كلها أسباب كانت ستجعل منه صاحب سلطة طاغية على الوفد، تصادر على أدوار الآخرين، دون أن تكون له مآثر ومؤهلات سعد زغلول نفسه، ووقع الاختيار كما هو معروف على مصطفى النحاس باشا.
فى السابقتين اللتين نتحدث عنهما كان موقف النخبة فى تعبيرها عن الضمير المصرى متسقا تمام الاتساق، إذ كانت الحركة الوطنية فى ذلك العهد تقوم على ركنين أساسيين، الأول هو الاستقلال الوطنى، والثانى هو الحكم الديمقراطى أو ما يسمى وقتها بالحكم الدستورى، ولم يكن يتوافق مع المطالبة بالحكم الدستورى النيابى أن تصبح الزعامة فى الأحزاب الساعية إلى تحقيق هذين الهدفين وراثية بالدم والقرابة، وليس بالسياسة والمبادىء.
وحتى إذا توافقت صلة الدم مع السياسة والمبادىء، فلتكن هذه الصلة سببا للرفض درءا للشبهات، حتى ولو كان المرشح المستبعد أفضل فى بعض النواحى ممن سيقع عليه الاختيار لأن مكاسب الحركة الوطنية من درء شبهة الوراثة بالدم ستكون أكبر من أى خسائر تترتب على اختيار المرشح الأقل نسبيا فى بعض المواصفات.
لعل ذلك التحليل يفسر لنا سرعة وقوع حزب الجبهة الوطنية الجديد الذى بادر إلى تأسيسه الدكتور أسامة الغزالى حرب ــ ليكون البديل الديمقراطى لكل من الحزب الوطنى الحاكم، وجماعة الإخوان المسلمين ــ فى دوامة الخلافات الداخلية، وسرعة فقدانه لقدر كبير من بريقه، بسبب اشتباه البعض فى غلبة المسحة العائلية منذ البداية.
والحقيقة أن تفسير ظاهرة رفض العائلية والوراثة فى القيادة السياسية «المنتخبة» فى مصر.. له جذوره فى التكوين الاجتماعى للنخبة المصرية، أو طبقتها الحاكمة، إذ إن الشرعية السياسية على طول التاريخ المصرى القريب، لم تفتقد إلى تكتلات قبلية، أو طائفية، أو إقليمية، وفى ذلك فإن مصر فريدة حقا وقولا وسط إقليمها الملىء بالشرعيات الطائفية كالسودان ولبنان والعراق، والشرعيات القبلية كدول الخليج، والشرعيات الفئوية، إلخ..
بل إن مصر تجاوزت كل ذلك منذ زمن بعيد، حين قبلت أن تختلف العائلة الواحدة سياسيا دون ضغائن، فقد كان فكرى أباظة باشا مثلا من زعماء الحزب الوطنى القديم، وكان إبراهيم دسوقى أباظة من زعماء الأحرار الدستوريين، وكان أحمد ماهر باشا مثلا من أقطاب الوفد وزعماء الجناح «المتطرف فى الوطنية» فيه قبل أن ينسق ويؤسس الهيئة السعدية، فى حين كان شقيقه على ماهر باشا من أكثر الزعماء المستقلين مناهضة للوفد، وتآمرا عليه، وذلك بعد أن انشق عن «الوفد» فى طوره الأول، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
السبب الثانى فى أزمة جمال مبارك فى الضمير المصرى يعود إلى تصور غالبية الشعب المصرى بأن خطة التوريث كلها تدار بطريقة التفافية، تفترض الغفلة فى هذا الشعب، واستدراجه من حيث لا يدرى إلى التسليم فى نهاية المطاف، ولذا فإن أحدا لا يصدق النفى المتكرر لوجود مثل هذه الخطة، ولا أحد يقبل «تبليعها» للمصريين فى غلاف القواعد الدستورية، والانتخابات الحرة.
ومن هنا الظاهرة الفريدة فى رسائل التهانى بالمناسبات الكبرى بالهواتف المحمولة، التى ربطت ما بين التهنئة بالمناسبة، وما بين الحالة السياسية، وفى قلبها قضية التوريث، فهذه الرسائل أصدق حتى من استطلاعات الرأى، لأنها ترفض التوريث بنسبة 100٪، وليس فقط بنسبة 90٪.
هنا لنوضح مرة أخرى أن الأزمة التى نتحدث عنها بين جمال مبارك والضمير المصرى لا تعود إلى شخصيته، ولا حتى إلى التحفظات الكثيرة على طريقة الحكم الحالية، ولكن كما توضح السطور السابقة كلها، فإن هذه الأزمة راجعة إلى المبدأ، وإلى الطريقة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن من يريد أن يروض نفسه على قبول المبدأ، وعلى الرضوح للطريقة بحجة أن هذه أسلم طريقة لتفادى الفوضى، وأن جمال مبارك قد يكون الطريق الوحيد للخلاص من حكم الرؤساء الضباط، فإن التحفظات على طريقة الحكم الحالية المرتبطة بالحزب الوطنى الديمقراطى، وبمؤسسة الرئاسة سوف تعترض طريقه، ذلك أن خطاب أمين لجنة السياسات وحركته السياسية لا ينبئان بأى قدر ولو ضئيل من الأمل فى تغيير بنية وطبيعة النظام السياسى، وعلاقته بالشعب، فلا حديث جديا عن تغيير المدد الرئاسية، وإقرار مبدأ تداول السلطة، وإعمال مبدأ محاسبة السلطة التنفيذية، وإطلاق حرية العمل السياسى والنقابى والأهلى.
وبالطبع فإن مطالبة أمين لجنة السياسات بمثل هذه الالتزامات ــ بغض النظر عن إمكان وصوله إلى الرئاسة من عدمه ــ يعد تحميلا للأمور بأكثر مما تحتمل، لأن قطع هذه الالتزامات يعنى قطيعة مع نظام الحكم الحالى، وهذا معناه أنه يناهض النظام الذى سيحمله إلى المنصب، دون ضمان بأن هذه القطيعة قد تصل به إلى شىء، وعموما فإن مثل هذا الطريق مغلق نهائيا.
والحديث عنه من جانبنا مجرد رياضة ذهنية لتوضيح الأمور. ليس إلا، أى لتوضيح أن أمين لجنة السياسات لا يستطيع تلبية المطالب الحقيقية للرأى العام من النظام السياسى، حتى يتغلب على أزمته مع الضمير المصرى.