ربما هى أكثر من مصادفة التزامن التى جمعت بين مقالى الدكتور نور فرحات يوم الجمعة الماضى، والدكتور أحمد جلال فى اليوم التالى فى «المصرى اليوم»، ومقال كاتب هذه السطور فى «الشروق» يوم الجمعة الماضى أيضا.
المقالات الثلاث تحاول استشراف مستقبل مصر من منظور العلاقات المدنية العسكرية، كما تحددت منذ يوليو 1952، وكما صارت بعد ثورة يناير 2011، وكما يؤمل أن تكون فى المستقبل، على ضوء حاجة الوطن الماسة إلى تحول ديمقراطى متوافق عليه.
طبعا بوسع القارئ أن يعود إلى المقالات المذكورة، ولكنى هنا أركز على استشراف المستقبل.
ففى مقاله المخصص لعرض فصل العلاقات المدنية العسكرية والتحول الديمقراطى فى مصر من تقرير المركز القومى للبحوث الاجتماعية (الحكومى) عن ثورة يناير وتحولاتها، يخلص الدكتور فرحات إلى أن التقرير «لاحظ امتداد فترة التحول الديمقراطى فى ظل التدخل العسكرى، سواء بعد 1952، أو بعد 2011، فلم تنتقل مصر بعد إلى مرحلة الرسوخ الديمقراطى حتى الآن».
أما الدكتور أحمد جلال وزير المالية الأسبق، فبعد أن أقر أن لكل منا رأيا بخصوص المستقبل، وأن لكل رأى وجاهته، فإنه من جانبه يقول: «أرى وجاهة رأى «ميلانى كاميت» أستاذة العلوم السياسية بجامعة هارفارد، الذى ورد فى أحد فصول كتاب قمت بتحريره العام الماضى، بالاشتراك مع «اسحق ديوان» تحت عنوان «اقتصاديات الشرق الأوسط فى فترات التحول»، وخلاصة هذا الرأى أن مستقبل مصر يتوقف على استعداد النخبة السياسية ــ بما فى ذلك القوات المسلحة، والمجتمع المدنى بفصائله المختلفة ــ للتوصل إلى توافق حول بناء نظام ديمقراطى حديث، مثل هذا التوافق وضع تونس على بداية الطريق الصحيح، ومصر لا تستحق أقل من ذلك».
وللتذكرة كان كاتب هذه السطور، قد تبنى هو الآخر فى مقال الأسبوع الماضى فى «الشروق» رأى الأب المؤسس لدراسات التحول الديمقراطى البروفسور دانكوارت روستو، الذى يقرر أن نجاح النظم العسكرية يتوقف على إقامة أو السماح بإقامة منظمات مدنية دستورية تحد من السلطوية والتدخل العسكرى، وأن كل دولة ترسخت وحدتها الوطنية قادرة على إنجاز التحول الديمقراطى بشرط جوهرى هو توافق النخب وفى مقدمتها بالطبع المؤسسة العسكرية على قرار التحول، وهو ما سميناه بالاختيار الإرادى الواعى.
نعود إلى ما وراء مصادفة التزامن الذى جمع بين هذه المقالات الثلاث فى يومين متتاليين، لنكتشف من تعليقات القراء والخبراء عليها ــ فى المواقع الالكترونية، وعلى شبكة التواصل الاجتماعى، وفى الجلسات الخاصة ــ أن هناك ما يشبه الاجماع، على أن التحول الديمقراطى لم يحدث بعد فى مصر، وأن هذا التحول ضرورى للمستقبل الآمن للبلاد من جميع النواحى، وأنه كلما جاء مبكرا كلما كان ذلك أقل تكلفة من جميع النواحى أيضا.
كذلك كان هناك إجماع أو ما يشبه الاجماع على أن الضعف الواضح للقوى المدنية هو من أسباب تعطل أو فشل عملية تحول مصر ديمقراطيا، بمعنى أنه لا يوجد «طلب سلمى شعبى منظم ومؤثر على الديمقراطية، يدفع القوة الوحيدة المنظمة والمؤثرة للقبول بمثل هذا التوافق».
ومع أن لهذا الرأى وجاهته الظاهرة للعيان، فإنه يغفل حقيقتين مهمتين، الأولى هى أن السلطة فى كل مراحل نظام يوليو فاعل أصلى فى إضعاف الحياة السياسية، وتجفيف روافدها، من محاصرة الأحزاب وتشويهها، إلى استهداف منظمات المجتمع المدنى، ومن تدجين النقابات إلى تقييد حرية الرأى والتظاهر، ومن تصنيع الانتخابات، إلى ترويض البرلمانات، والحقيقة الثانية التى يغفلها هذا الرأى هى عنصر «الإرادة أو الاختيار الواعى» الذى سبقت الإشارة إليه عند شرح مرحلة اتخاذ القرار بالتحول الديمقراطى فى نظرية دانكوارت روستو، والتى يبدو أن أستاذة هارفارد «ميلانى كاميت» تتفق معها.
وعلى كل حال فإن الطلب الشعبى المنظم على الديمقراطية يعد من محفزات التحول الديمقراطى، وغيابه أو ضعفه لا ينفيان وجود موجبات هذا التحول فى الواقع المعاش، كما سنرى توا.
وهنا تجدر المبادرة إلى الرد منذ الآن على من سيعترضون على اتخاذ «روستو وكاميت» مرجعين لاستشراف مستقبل التحول الديمقراطى فى مصر، بحجة أنهما لا يفهمان الواقع المصرى جيدا، وأن لكل دولة خصوصيتها، أو أنهما أمريكيان متحيزان مسبقا للنموذج الديمقراطى الغربى فى أحسن الأحوال، إن لم يقل بعض السفهاء من مواطنينا إنهما متآمران ضد الاسلام، أو ضد مصر، أو أننا مصابون بعقدة «الخواجة»!! والرد هو أن كلا منهما صاغ نظريته بعد دراسة متعمقة ومستفيضة ــ ميدانيا ووثائقيا ــ لعشرات بل ومئات النماذج من حالات التحول الديمقراطى، الناجح منها والفاشل فى مختلف أنحاء وثقافات العالم، فى الحاضر، وفى الماضى القريب، والماضى البعيد، ومن ثم فما يقولانه هو ما استخلصه كل منهما من دراساته تلك كقوانين عامة مجردة، يؤدى تطبيقها إلى نجاح التحول الديمقراطى، ويؤدى التهرب منها إلى فشل ذلك التحول، مع ملاحظة أن الفاصل الزمنى بين أبحاث البروفسور روستو فى ستينيات القرن الماضى، وبين أبحاث الأستاذة كاميت يزيد على نصف قرن، ومعنى ذلك أن ما توصل كل منهما إليه، ومعهما مئات الباحثين من نتائج قد ثبت أنه صحيح، ومستمر، وسوف يظل مستمرا.
نعود إلى حالتنا المصرية، وبعد أن فندنا حجة ضعف القوى المدنية كذريعة لتعطيل أو إفشال الانتقال إلى الديمقراطية، لنضيف أن ضغوط الواقع، ومخاطر المستقبل تكفى فى حد ذاتها للاختيار الإرادى الواعى لتحول ديمقراطى متوافق عليه، وهذه الضغوط هى ما نسميه بموجبات التحول الديمقراطى، إذ لا يمارى أحد إلا المكابرين فى أن أوضاعنا الحالية أبعد ما تكون عن الأوضاع الطبيعية، سواء على مستوى الحياة اليومية، أو على مستوى البنية السياسية، أو على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية.
فبالإضافة إلى خطر الإرهاب، والحرب الواجبة ضده، يوجد جمود أو اختناق على مستوى الحياة اليومية، فقد عاد التوجس يسيطر على علاقة المواطنين بالشرطة، ويتكرر منع مواطنين من السفر، ويفرض التحفظ على كثير من الممتلكات، وتغلق المكتبات، وتحجب المواقع الصحفية الالكترونية، وتمتلك القنوات التليفزيونية بغرض ترويضها، ويقبض على شباب الاحزاب، ولا تزال جماهير كرة القدم ممنوعة من حضور المباريات، مع أن المنافسات الرياضية تعد من أهم المتنفسات لشحنات الغضب والاحباط، ولا يخفى أن منع تشييع جنازة مرشد الإخوان السابق جماهيريا، هو فى ذاته مؤشر على الشعور بعدم الاستقرار.
فإذا نظرنا على المستوى الأوسع سياسيا، فسنجد أن مصر كلها نظاما ومجتمعا تصاب بحالة توتر حادة مع كل استحقاق انتخابى، وها هى ذى المؤشرات تتوالى مع اقتراب انتخابات الرئاسة فى النصف الأول من العام المقبل، وكانت انتخابات المجالس المحلية قد تأجلت أكثر من مرة للسبب ذاته، الأمر الذى سيتكرر بالقطع مع الانتخابات البرلمانية التالية، ومع الانتخابات المحلية، إذا أجريت بعد انتخابات الرئاسة مباشرة كما يقال حاليا، كما يستمر عمليا منع التظاهر وكافة صور الاحتجاج.
وعندما يصل التوتر السياسى فى البلاد إلى حد تشريع إسقاط الجنسية عن المواطنين لأسباب هى أولا وأخيرا متعلقة بأمن نظام الحكم، فلا يمكن الادعاء بأن أوضاع البلاد طبيعية، وأن هذه الأوضاع قابلة للاستمرار طويلا.
كل ذلك ولم نتطرق باستفاضة إلى الأوضاع المعيشية العسيرة لأغلبية المواطنين، بعواقبها الاجتماعية الوخيمة، والأزمة الاقتصادية بأبعادها الكثيرة والمعقدة، والزيادة السكانية المخيفة، وتدهور التعليم، وغياب البحث العلمى.
كذلك لم تتطرق إلى التغيرات الجذرية فى البيئة الاقليمية، والدولية حول مصر فى غير صالحها، ولمصلحة الآخرين، كإسرائيل وإيران وتركيا، بل وحتى إثيوبيا، التى انتقلت إليها سياسة النيل، التى كانت اختصاصا مصريا تاريخيا.
من حق الكثيرين أن يقولوا إن النظام الحالى ليس مسئولا عن معظم هذه المشكلات، وخاصة الموروث منها، ومن جانبنا فإننا متفقون مع هذا القول، لكن هناك بالقطع كثيرا من المشكلات الحادة التى تسبب فيها هذا النظام، أما الأهم فهو أن كل نظام حاكم مسئول عن حل جميع المشكلات الموروث منها، والجديد، بما أنه النظام الحاكم، أو على الأقل مسئول عن تخفيف حدتها، ووضعها على بداية طريق الحل، ولكى يحدث ذلك لا بد أن تسود مصر أوضاع طبيعية فى كل المجالات، تسمح بتفاعل الأفكار، والتشخيص السليم للمشكلات، والاختيار التوافقى للحلول، والانخراط الطوعى فى العمل العام .. والاطمئنان على الحصول على الحقوق، مدخلا إلى أداء الواجبات، وخضوع الجميع للرقابة والمساءلة، وهذا كله يسمى بالتحول الديمقراطى، والذى رأينا عند روستو وكاميت ثم نور فرحات وأحمد جلال أن مستقبل مصر يتوقف عليه .. حتى لا يقول الجميع مع الدكتور جلال (فى ختام مقاله المشار إليه): قلبى على ولدى وعلى بلدى.