يجرى الطفل مندفعا وهو يلعب فيقع على الأرض فترفعه أمه وتضرب الأرض وكأن الأرض هى السبب فى وقوعه رغم استوائها وضعف اتزانه واندفاعه بغير إدراك لإمكاناته. أحيانا نفسر لأبنائنا الحياة بشكل مبسط أكثر من اللازم، فلا نعلمهم أنهم مسئولون عن أفعالهم وأنهم اذا أرادوا النجاح فلا مجال للتخلى عن المسئولية أو إلقاء اللوم على الغير.
أشهر من قسم الناس إلى فسطاطين بصورة «إما معنا أو ضدنا» فى العصر الحديث هو بوش الابن فى حربه المزعومة على الإرهاب عقب أحداث سبتمبر ٢٠٠١. وهو نفس منهج السلطة الحالية فى التعامل مع الأحداث تحت نفس المسمى «الحرب على الإرهاب». ولا يختلف عنهم معسكر الشرعية المزعومة فى تعاملهم مع المجتمع المعارض لهم بوصفهم «عبيد البيادة، محبى الخنوع، عبيد هذا الزمان» الى آخر الألفاظ البذيئة. فتجعلك تتعجب من الفسطاطين، سلطة لا تتعلم من الماضى تعتقد أن الحل الأمنى لا يوجد له رد فعل وتنتظر انتعاشا اقتصاديا فى ظل بث مستمر لشعار الحرب على الإرهاب عبر كل الوسائل الاعلامية، ومعارضون ينتهج بعضهم العنف كوسيلة للتغيير، وتعطيل المصالح ووقف الاقتصاد سبيلا لدحض الانقلاب ويصفون شعبا بكل البذاءات، ثم يتوقعون أن يحكموه.
طوال فترة حكم محمد مرسى لم ينفك مؤيدوه عن ترديد نظرية المؤامرة، فالكل يعمل ضده، معارضون، قضاء، شرطة وإعلام وبدلا من ممارسة السياسة والعمل على دمج الناس وتوحيدهم وتحييد المعارضين، بدوا وكأنهم يسعون إلى زيادة الهوى وشق المجتمع. على الجانب الآخر تشهد هذه الأيام تجلى لنظريات المؤامرة من السلطة ومؤيديها، وسواء كان تبنى نظرية المؤامرة كنوع من الإلهاء والتخدير للمجتمع أو عن اقتناع حقيقى بها، إلا أن هذه النظرية تلقى رواجا فى آذان الناس وتتغذى عليها عقول وقلوب دأبت الاستسهال واتباع الهوى. فكل دول العالم تتآمر ضدنا وهناك آلاف الخلايا النائمة ومئات الطوابير من العاملين سرا بيننا يتبعون سلطة المرشد الأعلى.
دائما ما أتذكر قصة الفيل الذى يتحسسه الناس وهم معصوبو العينين، فيمسك أحدهم ساقه فيصفها بأنها كالحجر، عريض وقوى وثابت، بينما يمسك الآخر الزلومة فيصفها بالطول واللين والحركة، والحقيقة أنه فيل وهذه الحقيقة لها أوجه مختلفة ومركبة. فالله لم يخلق الكون ثنائى الألوان بين الأبيض والأسود، لم يخلق الله الانسان على شكل واحد، بل حتى العينين قد يختلفان فى الشكل بل واللون احيانا، كل ما فى هذا الكون يصيح بالتعدد، تلك هى الحياة، مركبة ومتنوعة وكذلك هو توصيف أى مشهد سياسى.
•••
ليس بالضرورة أن أرفع رمز رابعة كى أكون معارضا للسلطة الحالية، فهو رمز للاستقطاب والتحريض والصد عن الدعوة، كما أنه رمز لمذبحة قامت بها السلطة، فاستشهد من الجانبين أبرياء بغير حق. وهو رمز لمرحلة كانت لا بد أن تنتهى ولا بد من محاكمة من قَتل فجعل منها رمزا. ولا يعنى ذلك مصادرة حق من يعتبرها رمزا لأى شىء آخر، بل والتعبير عن ذلك بحرية وبسلمية ولكن الكثيرين يعجزون عن فهم أى موقف يخرج عن عقلية الثنائيات التى تربوا عليها ويرى ذلك نوعا من المؤامرة الخفية، فيصعب على الفسطاطين، السلطة ورافعى شعار رابعة، مخاطبة ذلك الفصيل الوسطى أو الرمادى كما يحلو لهم وصفه.
الحقيقة فيما سبق أننا أمام مجتمع يتمتع الكثير فيه بعقلية الأطفال، فهو عاجز عن تفسير مآلات أفعاله وتحمل مسئولياته، مجتمع أفضل ما يملك هو لوم غيره وتصنيفه بالضد إن لم يكن معه. يدمن الثنائيات ويعشق التصنيف والتبسيط ويعيش على رد الفعل. مجتمع لا يعرف الحقائق المركبة والتعددية وتحمل المسئولية والمبادرة. فهل ندرك يوما أننا نعيش فى عالم ملون ومركب وحى ولا نعيش فى عالم أبيض وأسود ومسطح ويابس؟