فى مرات كثيرة صار المرء يحزن لأنه يعيش هذه اللحظة القاسية التى تعصف بالعالم العربى، ولا يبدو أن نهاية قريبة آتية لها.. تصر تلك اللحظة على الضغط على مراكز أعصابنا بمشاهد الإبادة الجماعية لأهلنا الصامدين المرابطين على أنقاض بيوتهم فى غزة، أو عبر مشاهد العدوان الوحشى على لبنان، ذلك البلد العربى الذى إذا زرت أجمل بلاد الدنيا ستظل روحك تهفو إليه بعروبته وانفتاحه وتنوعه. يضاف إلى تلك الجراح الغائرة فى غزة ولبنان جرح ثالث يكاد يكون منسيا، فلا يحظى بالتركيز الإعلامى الذى يوازى الأهوال التى يعيشها أهله، هذا الجرح الثالث الغائر هو نزيف الدم السودانى، الذى لا يشعر به أحد قدر شعورنا نحن فى مصر، فمصيرنا وتاريخنا المشترك يجعل أى صرخة لأم ثكلى فى كردفان أو دارفور تجد لها صدى فى الصعيد والقاهرة والإسكندرية.
• • •
مساء الأربعاء الماضى دعانى السيد مجدى مفضل، سفير السودان لدى النمسا ومندوبه الدائم لدى منظمات الأمم المتحدة فى فيينا إلى جلسة ضمت عددا من الصحفيين النمساويين والعرب، طوال الطريق إلى مقر الجلسة مرّ أمامى كل تاريخنا المشترك مع ذلك البلد العربى/ الإفريقى مترامى الأطراف. عدت لسنوات الطفولة فى الثمانينيات وقت أن كان للراديو حضوره فى البيوت خصوصا فى القرى.. قفزت إلى مسامعى العبارة الأثيرة بينما أقلب مؤشر المذياع: «إذاعة وادى النيل من القاهرة»، مرت أمامى ذكريات انقلاب الترابى ــ البشير عام 1989، واللذين احترفا الصدام مع مصر، لولا جهود بعض المخلصين من أبناء السودان، على رأسهم الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وزير الخارجية الأسبق، المحب للسودان ولمصر، والمؤمن بحتمية التعاون بينهما.
ما فعله البشير أنه استعدى كل جيران السودان المحاط بتسع دول قبل انفصال الجنوب، الذى لم يتحرك النظام لجعل خيار الوحدة جاذبا لأبنائه، وما فاقم الأوضاع أن حدود السودان مع هؤلاء الجيران التسعة مفتوحة والمجتمعات قبلية، ومع الحركة الرائحة والغادية بلا ضابط أو رابط يتحرك السلاح، وتشتعل النيران من مستصغر الشرر.
فتشت فى طريقى لتلبية دعوة السفير السودانى عن الأزمة الإنسانية الرهيبة التى يعيشها أشقاؤنا وجيراننا فوجدت الرئيس السابق البشير مسئولا بنسبة كبيرة عنها؛ فالحرب الأهلية التى تدور رحاها منذ أبريل 2023 رغم أنها بعد 4 سنوات من سقوط نظامه فى عام 2019 لكنه مسئول عنها.. فمن ذا الذى صنع محمد حمدان دقلو أو «حميدتى» زعيم ميليشيا الدعم السريع، التى ترتكب كل الموبقات فى هذا البلد العزيز؟ من صنعه هو البشير خلال أزمة دارفور فى 2004 وما بعدها، التى كادت تتسبب فى تدخل دولى فى السودان، نظرا لممارسات «جنجويد حميدتى».
• • •
بدأ السفير مفضل باستعراض الأوضاع الإنسانية المأسوية التى تعيشها بلاده، وقال إنه بموجب الأرقام التقريبية لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية بالأمم المتحدة، فإن عدد النازحين فى السودان فاق ١١ مليون نسمة، ووصل عدد اللاجئين أكثر من ٣,١ مليون نسمة، فيما بلغ عدد المتأثرين بالأمطار والسيول فى عموم البلاد نحو ٦٠٠ ألف نسمة ما فاقم من أوضاعهم الإنسانية المتردية، ويمكنك أن تضيف إلى ذلك انتشار الملاريا والحصبة والكوليرا وحمى الضنك فى بعض المناطق، مع انهيار تام للمنظومة الصحية، وبالتالى فإن السودان يعيش أكبر أزمة نزوح فى العالم وعلى شفا أسوأ أزمة جوع أيضا.
سرد السفير السودانى الكثير من ممارسات ميليشيا الدعم السريع ضد المدنيين العزل، وقال إنهم يقومون بأعمال سلب ونهب لكل ما يقع تحت أيديهم، لا يفرقون فى ذلك بين بنك ومستشفى.. بين سوبر ماركت وحرمة منزل آمن. واعتبر أن أزمة السودان الحالية تتمثل فى أن المجتمع الدولى غارق حتى أذنيه فى ملف العدوان على غزة ولبنان والصراع الإقليمى بين إسرائيل وإيران، والأوروبيون الذين من المفترض أن يكونوا أكثر اهتماما بما يجرى على شاطئ البحر الأحمر الذى تتحرك فيه بضائعهم ومصادر طاقتهم مشغولون بالحرب الروسية الأوكرانية، التى استنزفت مواردهم، واستحوذت على تركيزهم بعيدا عما يجرى فى مناطق استراتيجية أخرى فى العالم.
ركز الصحفيون الأوروبيون على سؤال السفير السودانى بشأن دعم روسيا لميليشيا الدعم السريع، فقال الرجل إن تنسيقا كبيرا كان بين هذه الميليشيا وقوات فاجنر حتى 2019 للتنقيب عن الذهب، بعد ذلك التاريخ صار هدف روسيا هو الاستثمار فى السودان لا التدخل فى صراعاته. وحذر السفير من أن طوفان من البشر سيهاجم أوروبا عبر القوارب ما لم تتحرك لوضع حد لهذا الصراع الدامى من خلال المنظمات الدولية وهياكلها الرئيسية وعلى رأسها مجلس الأمن وبقية مؤسسات النظام متعدد الأطراف.
حفظ الله السودان وشعبه.