الذين يصيبهم اليأس والإحباط من المناخ الحالى بتفاعلاته المختلفة ومكوناتة المتباينة، لا أجد لهم حلا سوى أن أطلب منهم مشاهدة حلقة أمس الأول من برنامج «آخر كلام» الذى ظهر فيها الثائر الشاب عبدالرحمن منصور مع القدير يسرى فودة على شاشة «أون تى فى».
لا يمثل عبدالرحمن الأمل فى تجرده فحسب، بقدر ما يمثل أصل الثورة وجوهرها، الشاب الذى أسس مع زملاء له صفحة «كلنا خالد سعيد» فى لحظة مفصلية، تلك الصفحة التى تلقفت نبأ استشهاد الشاب السكندرى، وبنت وجودها على السعى للحصول على حقه الضائع، وحولت استشهاده إلى صرخة كبيرة ضد الدولة الأمنية البوليسية، وتراكمت فعالياتها التى انتقلت بها من فضاء الإنترنت إلى الشارع فى مسيرات ووقفات احتجاجية حزينة، انتهت إلى الدعوة المباشرة لثورة 25 يناير، فى وقت كان كل المحترفين سياسيا يرون الدعوة جنونا، انعكس على لحاقهم بقطارها بعد انطلاقها بـ3 أيام على الأقل.
لم تكن الثورة فقط هى محاولة لإسقاط نظام مبارك بما يمثله من عناصر ومفاسد، بقدر ما كانت محاولة جادة لإسقاط الماضى من أجل بلوغ المستقبل، بهذا الإحساس انطلقت ونجحت فى شرارتها الأولى، وفرضت فلسفتها على الميدان كله طول الـ18 يوما، تيار رئيسى متوحد عينه على أهداف أبعد من مجرد تنحى الحاكم أو سقوط نظامه.
لكن الأزمة الحقيقية التى وقعت فيها الثورة أن جيلا ينتمى للمستقبل أشعل شراراتها ومنحها الزخم للنجاح والتمكين، ثم سلم راياتها لسياسيين وجماعات وأحزاب تنتمى إلى الماضى هى الآخرى، عاشت فى كنف النظام السابق، ألفت ذهبه وسيفه، وحفظت أساليبه، وتحركت فى إطار سقف ممارساته، حتى إذا ما وصل فصيل منها لمقاعد الحكم، سار على درب هذا النظام الذى لم يعلم أبناءه فقط لكنه علم معارضيه كذلك، الاستخفاف بكل شىء، وعدم تقدير أى شىء سوى حقائق القوة الأمنية والعسكرية، فكان أستاذا فى لى عنق القانون، وتفصيله، وفى فرض الأمر الواقع، حتى صار ما يجرى شبيها بما جرى.
المعركة الحقيقية الآن ليست بين سلطة ومعارضة، ولا بين تنظيمات إسلاموية تنتمى للماضى، وتنظيمات مدنية تنتمى للماضى أيضا، المعركة بين جيل ينتمى للمستقبل وكل مكونات الماضى المتباينة، بكل أفكارها وأيديولوجياتها الوصائية على الدولة والمجتمع.
هنا أزمة مسودة الدستور الحالية عند هذا الجيل، أنها مسودة كذلك تنتمى للماضى، تنتج دستورا تقليديا وصائيا تتحول فيه الدولة إلى أب يملك العصا والجزرة، تتدخل فى كل شىء، فى المؤسسات والعقائد وحتى فى الأسرة والتربية والأخلاق.
عندما تشاهد عبدالرحمن منصور والذين معه، ستعرف أن هذا الدستور لن يصمد، وأن جيل المستقبل الذى لا يحمل على ظهره فواتير حزبية ولا أيديولوجية، لديه تسامح مع كل المكونات، لا يعترف بالإقصاء، يعرف تماما النهر الذى لا بد أن يطفو عليه التيار الرئيسى الذى يصنع المستقبل، يملك من الطموح المشروع ومن الصبر والدأب ما يكفى لشحذ بطاريات المقاومة لعقود طويلة، لا يؤمن بالأمر الواقع، الذى قد تنجح السلطة فى فرضه على معارضة مثل السلطة تنتمى للماضى، لكنها لن تتمكن من فرضه على جيل قال للطاغية إرحل، فى الوقت الذى كان فيه رموز المعارضة يتفاوضون معه على تحسين شروط البقاء.