ينسب مصطلح «النرجسية» إلى أسطورة يونانية تحكى أن شابا اسمه نركسوس Narcisse كان آية فى الجمال، لكنه كان مغرورا مترفعا عن كل من يحبه ويعجب به، فعشق نفسه حتى الموت، والنرجسية تعنى حب النفس، وتمثل حالة من الاضطراب فى الشخصية حيث تتميز بالغرور، والتعالى، والتكبر، والشعور بالأهمية ومحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين.
وتشخص «الشخصية النرجسية» (Narcissistic personality) بأنها حالة مرضية تؤثر على الصحة «العقلية» للإنسان الذى ينتابه شعور مبالغ فيه بأهميته، ويحتاج إلى الاهتمام والإطراء من الآخرين بشكل زائد، بل ويسعى إلى ذلك؛ ويفتقر الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب إلى القدرة على فهم مشاعر الآخرين أو الاهتمام بها؛ فالنرجسيون لا يهتمون إلا بأنفسهم، وتعد النرجسية إحدى سمات الشخصيات الثلاث فى ثالوث الظلام إلى جانب كل من المكيافيلية والاعتلال النفسى، وعادة ما تمثل النرجسية مشكلة فى علاقات الفرد مع ذاته ومع الآخرين.
كما يصاحب الشخصية النرجسية شعور غير عادى بالعظمة، وأنه شخص نادر الوجود أو أنه من نوع خاص فريد لا يمكن أن يفهمه إلا خاصة الناس، ينتظر من الآخرين احتراما من نوع خاص لشخصه ولأفكاره، وهو استغلالى، ابتزازى ووصولى يستفيد من مزايا الآخرين، وظروفهم فى تحقيق مصالحه الشخصية، بالإضافة إلى أنه غيور، متمركز حول ذاته، يستميت من أجل الحصول على المناصب، لا لتحقيق ذاته وإنما لتحقيق أهدافه الشخصية.
ويميل النرجسيون نحو إعطاء قيمة عالية لأفعالهم وأفضالهم والبحث عن المثالية لدى آبائهم أو فى أصولهم العرقية، ويبحثون فى معتقداتهم الدينية لبث هذه الروح، هكذا تلعب التفاسير البشرية التى كثيرا منها يخطئ فى حق النصوص المقدسة، وهذه خطورة خلط الدين بالسياسة؛ نرى ذلك واضحا عند «بنى إسرائيل» الذين يعتبرون أنفسهم «شعب الله المختار»، فجاء تفسيرهم لهذه المقولة لتستثنيهم من كل البشر، وتميزهم على كل شعوب الأرض؛ ومما لا شك فيه أن هذا التفسير دليل قاطع على تحريف بنى إسرائيل لشريعة الله ومقاصدها فى التوراة، وذلك لأن الرسل جميعا بعثوا للأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والمساواة بين الناس، فالله سبحانه تعالى عن أن يدعو لعنصرية تقوم على العرق أو النسب، ونجد فى القرآن الكريم ما يؤكد هذا التحريف فى قوله: «من الذين هادوا يحرفون الْكلم عنْ مواضعه...» (النساء: 46) !
وأما عن قوله تعالى فى وصفه للمسلمين: «كنتمْ خيْر أمة أخْرجتْ للناس...»، هى مشروطة بما جاء فى بقية الآية: «تأْمرون بالْمعْروف وتنْهوْن عن الْمنكر...» (آل عمران: 110) ، المسلمون إذن «خير أمة» بأعمالهم الطيبة للناس، فهم ينفعونهم، ويرشدونهم إلى الخير، ويأمرونهم به، وينهونهم عن ضده، فكانوا بهذا خير الناس للناس، وإلا فهم ليسوا بمسلمين؛ هكذا قال النبى ﷺ فى حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن، المؤمن من آمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»، وليس المسلمون بـ«خير الناس» بديانتهم أو لأنهم أبناء إسماعيل عليه السلام أو أنهم من العرب...، ولكن بأعمالهم الصالحة، فلا فرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى!
• • •
وعن الصفات النرجسية ــ سابقة الذكر ــ ألا تنطبق كلية على الكيان الإسرائيلى الذى وصفناه فى مقال سابق بـ«الطفل المدلل»؟؛ فإن تدليل الغرب له جعله نرجسيا، يستخدمهم دون النظر للتكلفة الهائلة التى تقع على الحكومات التى تسانده فى الجوانب المادية والسياسية والأخلاقية...، هكذا يكشف هذا الكيان عن ثلاث آفات:
الأولى: أنانيته المفرطة، فهو لا يرى سوى مصلحته، ولا يرى سوى آلامه وأوجاعه، نراه يتباكى على أسراه، ولا يعطى أى اعتبار لأطفال ونساء وشيوخ الفلسطينيين المحتلين منذ 75 عاما، كما أنه يمنع بالقوة عائلات المسجونين الفلسطينيين بالتعبير عن فرحتهم بعد الإفراج عنهم، إنهم فعلا كيان ــ شعبا وحكومة ــ صاحب شخصية سيكوباتيكية!
والثانية: غروره، فإنه ليست لديه القدرة على النظر إلى العالم من منظور الآخرين، ولا يفكر فى حقوق الغير، نرى ذلك عندما عرض نيتنياهو ــ رئيس وزراء إسرائيل ــ فى 23 سبتمبر2023، أى قبل أسبوعين فقط من طوفان الأقصى، خريطة جديدة للشرق الأوسط، أثناء انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ78، ولم تشمل أى ذكر لوجود دولة فلسطينية، ولا الضفة الغربية، ولا قطاع غزة، ودون إعطاء أى اعتبار لأى دولة أو شعب من أصحاب المنطقة الأصليين، فالكيان الإسرائيلى يدعى أنه «الخبير» فى كل شىء، وأنه العليم بكل الأمور، لا يقبل نصيحة من أحد، ويرسم كل شىء طبقا لأهوائه، ويطلب من الجميع تحقيق رغباته!
ثالثا: المكابرة، فهو لا يعترف بهزيمة جيشه المذلة فى 7 أكتوبر 2023، ولا يدرك عجز العقل الإسرائيلى أمام العقل الفلسطينى الذى لا يملك سوى إمكانيات بدائية، علما بأن إسرائيل تمتلك كل الإمكانيات التكنولوجية الحديثة التى تصل إلى الخيال، ويحصل على مساعدة أقوى دولة فى العالم، فأجهزة مخابراتها بكل أنواعها ومعها مثيلتها من أقوى دول العالم فى الغرب لم يستطعوا التنبؤ بيوم طوفان القدس، ولا يستطيعون حتى الآن معرفة أماكن احتجاز الأسرى الإسرائيليين فى غزة التى دمروها تدميرا، وهذا يحطم نظرية الأمن، ويقضى على قناعتهم بأن جيشهم لا يقهر!
• • •
تلك الآفات الثلاث ــ الأنانية والغرور والتكبر ــ والتى تعتبر من أهم أعراض النرجسية كانت نتائجها مدمرة على إسرائيل، وعلى كل من مناصريها؛ فهذه النرجسية بآفاتها الثلاث أدت إلى كارثة كبيرة، جعلت الدولة والمجتمع والشعب والجيش الإسرائيلى يصاب بمرض نفسى عضال يسمى «الهيستيريا»!
وتعرف الهستيريا (Hysteria) بأنها نوع من الأمراض النفسية، فهى تنشأ من اضطرابات نفسية وعصبية جراء القلق الشديد، ومحاولة كبت الصراعات التى تحدث للمصاب، حيث يفقد المريض السيطرة على مشاعره وسلوكه، وبالتالى تتأثر أعصاب الحس والحركة، ويصاحبه عادة نوبات مفاجئة من فقدان الوعى والانفعال العاطفى.
ومن أهم أسباب هذا المرض، أن المصابين بالهيستيريا لديهم مشكلة فى صورة الذات كالنرجسية، فهم يعتمدون على خضوع الآخرين لهم، ولذلك لديهم الحاجة الشديدة ليكونوا محل اهتمام الجميع، وهم يقومون بالتعبير المبالغ والدرامى لمشاعرهم، ويتصفون بالسطحية فى تعاملهم، فالشخصية الهيستيرية يعتبرها الأطباء النفسيون طريقة التعامل غير الطبيعية للدماغ مع الصدمات المفاجئة والشديدة، إنه باختصار نوع من الجنون!
• • •
ومن ناحية أخرى، لم تتعلم إسرائيل ــ كعادتها من تجارب الآخرين ــ فلقد أصيبت ربيبتها ــ الولايات المتحدة الأمريكية ــ بهذا المرض، منذ اثنين وعشرين عاما، وتحديدا فى الحادى عشر من سبتمبر 2001، لحظة الهجوم المفاجئ والمروع على برجى التجارة العالميين فى نيويورك، وتدميرهما بالكامل، والاعتداء على البنتاجون ــ مبنى وزارة الدفاع الأمريكى ــ فانكسر كبرياؤها، وأصابتها هيستيرية جنونية دفعتها لاحتلال أفغانستان، ومن بعدها العراق، ولكن النتيجة النهائية كانت هروب الجيش الأمريكى وهو يجر أذياله من البلدين فى هزيمة منكرة نتيجة لازدواجية معاييرها وصلفها!
وها هو التاريخ يعيد نفسه، وتتكرر نفس الصدمة على إسرائيل فى 7 أكتوبر 2023، وتتجسد الهيستريا التى أصابت الإسرائيليين ــ شعبا وحكومة وجيشا ــ فى رد الفعل الناتج عن هزيمتهم من المقاومة الفلسطينية، والذى يمنعهم كبرياؤهم وغرورهم الاعتراف بها، بينما أقرها القاصى والدانى، ومن أبرزهم جون بولتون ــ المستشار الأمريكى الأسبق للأمن القومى ــ الذى صرح بأن حماس حققت انتصارا كبيرا على إسرائيل!
هذه الهيستيريا تجلت فى تصرفاتهم الجنونية ضد شعب غزة الأعزل، فنسوا أنهم دولة مغتصبة لوطنهم فلسطين، ومحاصرون لغزة بحرا وجوا وبرا لأكثر من سبعة عشر عاما، يقتلون شعبا لا يملك قوت يومه، ويمنعون عنهم الماء والدواء والكهرباء، ويعتقلون أفراده دون سبب، ويعذبونهم فى سجونهم دون محاكمة، ولم يستثنوا منهم الأطفال والنساء ولا شيوخ، حتى الشجر والحجر والحيوانات الأليفة لم تسلم منهم؛ إنها إبادة جماعية لم تر الإنسانية مثيلا لها فى التاريخ الحديث ولا القديم، إنها ردود فعل همجية وبربرية طالت المستشفيات والمدارس والبيوت، وكشفت عن حالة جنون نتيجة لكسر كبريائهم، وعدم تخيلهم لحجم الهزيمة!
هكذا كشفت إسرائيل بأعراضها النرجسية، وتصرفاتها الهيستيرية المرضية عن خبث طبيعتها، وعن سوأة أهدافها، وعن ضلال فكرها، وعن قبح وجهها، وعن شخصيتها المعتلة؛ فهى ستلقى حتما مصير نركسوس الذى عاقبته الآلهة بسقوطه فى النهر ــ كما جاء فى الأسطورة ــ عندما كانت تختفى صورته التى كان ينظر إليها فى كل مرة محاولا الإمساك بها من النهر، والتى كان يعتقد أنها صورة محبوبته، ولكنها فى الحقيقة كانت وهما، فهى لم تكن سوى صورة وجهه التى اغتر بها، والتى كانت تنعكس على سطح ماء النهر الصافى، دون أن يدرك ذلك، فضاقت به الدنيا، وتملكه اليأس، وسيطر عليه الحزن، فلم يكن الحب الذى استعذبه نركسوس سوى عقاب انتهى بموته ــ نظيرا لإعجابه بذاته ــ أنزلته عليه «أفروديتى» Aphrodite (واحدة من آلهة الأولمب الاثنى عشر، وهى ربة الحب والجمال والنشوة...)، ولكن الآلهة أشفقت عليه بعد موته، وأنبتت مكان سقوطه فى النهر زهرة حزينة هى زهرة «النرجس» التى ترمز للموت والفناء، وهى إشارة إلى نهاية وفناء كل نرجسى محب لذاته!