فى الخامس من يناير الحالى، أصدرت المفوضية العامة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بيانا صحفيا بالإنجليزية عبرت فيه عن قلق بالغ من عمليات الإعدام التى جرت فى مصر خلال الأيام الماضية ومنها الإعدام لخمسة مدانين فى الإسكندرية على خلفية جرائم متعلقة بالإرهاب. البيان أبدى تفهما لظروف محاربة الإرهاب فى سيناء ولكنه فى الوقت نفسه ذكر السلطات المصرية بالعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية والذى صدقت عليه مصر (وأزيد من عندى أن مصر قد تعهدت باحترامه ضمن تعهداتها الدولية فى المادة ٩٢ من دستور ٢٠١٤) ويلزم مصر وغيرها من الدول المصدقة بإجراء محاكمات عادلة ومستقلة ومحايدة للمتهمين على أن يبقى المتهم برىء إلى أن تثبت إدانته. ذكر البيان مصر أيضا بظروف الإعدامات الأخيرة كونها نفذت بعد محاكمة المتهمين أمام القضاة العسكريين مقارنا بينها وبين المحاكم المدنية (الطبيعية) والتى يفترض فيها توفير فرصة أكبر للمتهمين من اتخاذ جميع إجراءات التقاضى الطبيعى للدفاع عن أنفسهم.
فى الحياة هناك مواقف تستطيع أن تتخذها بسهولة من قضايا بعينها معا أو ضد، لكن هناك قضايا أخرى من الصعب اتخاذ موقف ثابت تجاهها، وليسمح لى القارئ العزيز مشاركته فى موقفى الشخصى من عقوبة الإعدام، وهو ابتداء موقف معقد ومتشابك، لذا لزم التنويه لهواة المواقف البسيطة السهلة.
***
حتى العام ٢٠١٣ تقريبا كنت مع عقوبة الإعدام، أو لنقل بشكل أكثر دقة لم يكن يعنينى كثيرا أن أتخذ منها موقفا، فكنت آليا أرى أنها عقوبة طبيعية، فمن قتل يقتل. والأفضل من أن تترك عمليات الثأر للمواطنين وما يستدعيه ذلك من فوضى، فالسلطة أولى بتنفيذ هذا الثأر بشكل قانونى وهو على أى حال يدخل ضمن سلطات الدولة القومية وحقها الحصرى فى استخدام أدوات العنف، ومنها استخدام حقها فى القتل بسند من القانون، وما زالت هذه هى فلسفة عدد من الدول الديموقراطية مثل الدولتين اللتين عشت فيهما لفترات طويلة (اليابان والولايات المتحدة).
فى عام ٢٠١٣ طلب منى مجموعة من الأصدقاء أن أوقع على بيان ضد عقوبة الإعدام، وببساطة رفضت! ورغم أن عددا كبيرا من الأصدقاء الحقوقيين قد تعرض للصدمة حينما أخبرتهم موقفى الذى يدعم عقوبة الإعدام كجزاء طبيعى للمجرمين وخصوصا ممن يقدمون على القتل العمد بحق أبرياء، إلا أننى كنت ثابتا على موقفى وكنت أرى أن هذا جزاء طبيعى وإلا قام الأشخاص باتخاذ الثأر بأنفسهم وتحول المجتمع إلى غابة!
مع عام ٢٠١٤ بدأ موقفى يتغير قليلا، لم أكن بالضرورة ضد عقوبة الإعدام ولكن بدأت أعيد الحسابات! فى هذا العام صدر الحكم الشهير بإعدام ما يزيد عن ٥٠٠ شخص فى أحداث الاعتداء على قسم شرطة مطاى ومنشآت أخرى بمحافظة المنيا، ضمن قرارت أخرى بالإعدام طالت بعض الأكاديميين والمثقفين ومنهم بعض ممن تتلمذت على يديهم، وهنا قررت أن أعيد التفكير!
فالموضوع بدا لى للمرة الأولى أعمق وأعقد بكثير من مجرد الأخذ بالثأر! وسواء كنت مؤيدا أو معارضا أو حتى مرتبكا أمام عقوبة الإعدام مثلى، فهناك سياقات أخرى أهم للحديث عن الموضوع!
فبعيدا عن السياقات الفلسفية والدينية والنفسية، وبعيدا عن الجدل حول كون عقوبة الإعدام رادعة أم لا، هناك السياقان القانونى والسياسى اللذان تجرى فيهما عمليات البحث والمحاكمات وصولا إلى لحظة تنفيذ العقوبة وأدعى أن هذين السياقين هم الأهم فى مناقشة الموضوع على الأقل الآن فى مصر.
***
بعبارة أخرى، حتى وإن كنت من المؤيدين لعقوبة الإعدام، أو حتى كنت ـ لا قدر الله ـ ممن لديهم ضحايا لجرائم العنف والإرهاب ـ وترغب فى الأخذ بالثأر فلابد أن تناقش السياقين القانونى والسياسى من لحظة البحث والتحرى مرورا بالمحاكمات وصولا إلى لحظة التنفيذ، وبدون مناقشة هذين السياقين فلاتتحقق العدالة أبدا، بل إن الإعدام قد يكون فى هذه الحالة مدعاة للمظلوميات ومن ثم لمزيد من العنف والقتل!
فى مصر تحديدا وفى دول العالم الأقل ديموقراطية عموما، فالسياقات السياسية والقانونية تقف عقبة أمام تنفيذ عادل لعقوبة الإعدام، لماذا؟
سياسيا، الوضع فى مصر يفتقد للمسئولية والمحاسبة والشفافية، وهذه القيم ليست مجرد كلام نظرى يردده الأكاديميون كما يعتقد البعض، بل هى محور أى سياق سياسى عادل ولازم أثناء عمليات البحث والتحريات، المحاكمات، ثم تنفيذ العقوبة. فى مصر، لا يقوم الإعلام (عاما وخاصا) بدور المراقب أو المحاسب أو السلطة الرابعة كما يحلو لنا التدريس لطلبة العلوم السياسية والإعلام، ولكنه يقوم بأدوار تتراوح بين الدعاية والتبرير بل وقد يصل فى أحيان كثيرة إلى التحريض! فى ظل هذا السياق السياسى أيضا فإن بعض جهات التحقيق تعتبر نفسها فى خصومة مباشرة مع بعض الجماعات أو الأفراد ومن ثم المتهمين، مما يجعل عملية تنفيذ القانون محل تساؤل لأن بعض أجهزة الدولة تتصرف هنا باعتبارها طرفا لا حكما وهنا مكمن الخطورة!
هذا السياق يضع ضغوطا على جهات التحقيق للإسراع بعملية البحث والضبط للجناة مما يعرض العملية الأكثر حساسية وحسما كونها أول الخطوات نحو غرفة الإعدام إلى خطر التسرع أو عدم الدقة وفى بعض الأحيان التسييس وهنا تبدأ الفاجعة، لأن كل إجراءات المحاكمة تستند إلى هذه الخطوة وتحت نفس الضغط الإعلامى والشعبى للأخذ بالثأر قد ينتهى الحال بأبرياء إلى حبل المشنقة! وحتى لو كان هذا احتمالا ضعيفا، لكنه يظل واقعا مخيفا لأن تنفيذ العقوبة يعنى إنهاء حياة واحدة بريئة ولا يمكن الرجوع فيها أو تصحيحها بأى حال من الأحوال!
السياق القانونى الذى يتم فيه تنفيذ عقوبات الإعدام، يطرح بدوره العديد من التساؤلات. فعدد كبير من حالات الإعدام المنفذة أخيرا تمت بعد محاكمات عسكرية وما يستدعيه ذلك من انتقاص فى بعض حقوق المتهمين وخصوصا فى مراحل النقض والدفاع والحصول على الحق البديهى للمحاكمة أمام القاضى الطبيعى مما يزيد من خطورة إعدام أبرياء أو غير متدخلين بشكل مباشر فى تنفيذ جرائم الإرهاب والقتل العمد!
***
أمام هذه السياقات المتداخلة والمربكة التى تعوزها الشفافية والاستقلالية والحياد، وفى ظل الظرف السياسى الذى تمر به مصر وخصوصا مع ارتفاع وتيرة العنف وانتشار الجماعات الإرهابية فى ربوع سيناء وتسللها إلى الوادى، فإن النقاش من جانب المعترضين على العقوبة لا يجب أن يقتصر حول فلسفة العقوبة ومدى فاعليتها فى الحد من الجريمة، وكذلك فإن النقاش من جانب المؤيدين لا يجب أن يقف عند حدود «الأخذ بالثأر»، لأن الموضوع فى مصر أعمق من هذا وذاك، بل يجب أن يرتكز نقاش المؤيدين والمعارضين حول السياقين القانونى والسياسى لعقوبة الإعدام، وهنا أضع أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية والمهتمين بالأمر من الحقوقيين والإعلاميين ستة مقترحات عاجلة مفتوحة للنقاش الهادئ لا الهستيرى على النحو التالى:
المقترح الأول يتمثل فى اتخاذ السلطة التشريعية كل الإجراءات التى من شأنها تعديل الدستور جزئيا بحيث تتحول محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى المنصوص عليه فى المادة ٢٠٤ من الدستور إلى محاكم مشتركة بها قاضيان مدنيان وقاض واحد عسكرى ووفقا لإجراءات التقاضى الطبيعية المدنية، بحيث يمثل ذلك حلا وسطا يحقق رغبة المؤسسة العسكرية فى الإبقاء على المحاكم العسكرية للمدنيين فى قضايا بعينها، وفى نفس الوقت يوفر الحد الأدنى من العدالة لحماية المتهمين أثناء مراحل عملية التقاضى.
المقترح الثانى، يتمثل فى إصدار قانون يمنع جميع وسائل الإعلام من التدخل بالتحريض أو الدعاية ضد أو مع المتهمين فى قضايا إرهاب ممن صدر عليهم أحكام بالإعدام سواء كانت نهائية أو قابلة للنقض، بحيث يترك الموضوع برمته للقضاء المشترك (المدنى / العسكرى)، المشار إليه فى الأعلى مما يرفع أى ضغط شعبى، سياسى، أو إعلامى محتمل على جهات البحث والتحقيق والمحاكمة.
أما المقترح الثالث فيتمثل فى ضرورة تجميد تنفيذ عقوبات الإعدام فى الأعوام التى تجرى فيها انتخابات عامة (رئاسية أو تشريعية)، لتوفير أقصى ضمانات الحيدة والنزاهة والاستقلالية ومن ثم العدل للمدانين.
المقترح الرابع يتمثل فى وضع سقف لعدد الإعدامات التى يجرى تنفيذها فى السنة الميلادية الواحدة بحيث لا يزيد بأى حال من الأحوال على ١٢ حالة إعدام سنويا (بمتوسط حالة إعدام واحدة لكل شهر).
ثم يأتى المقترح الخامس ليضع حدا زمنيا فاصلا بين إصدار عقوبة الإعدام وبين تنفيذها وأقترح أن يكون هذا الحد ثمانى سنوات على الأقل، بحيث لا يتم التنفيذ إلا بتأن شديد وبدون استعجال لمراحل التقاضى ودون ضغوط شعبية أو إعلامية أو سياسية.
وأخيرا يأتى المقترح السادس والأخير والذى يتمثل فى ضرورة حضور ممثلين للإعلام والمجتمع المدنى والحقوقى لعملية الإعدام ونقل وقائعها بعد التنفيذ شفاهة أو كتابة إلى الشعب إعمالا بحقه فى المعرفة والاطلاع على تفاصيل هذه العقوبة المشددة.
لا تهدف هذه الاقتراحات إلى تعطيل العدالة ولا ترمى بأى حال إلى تشجيع الإرهاب أو إعفاء الإرهابيين أو المدانين فى قضايا قتل أخرى من العقوبة، ولكنها تهدف إلى اتخاذ كل التدابير اللازمة لتوفير أقصى درجات الحيدة والنزاهة والاستقلالية ومن ثم العدل للمتهمين فى ظل الظرف الأمنى والسياسى الضاغط الذى تتعرض له مصر، فالثأر وحده لا يحقق العدل ولا يقيم الدول!