نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للباحث المغربى «المهدى مستقيم» عن أهمية الحوار من خلال عرض كتاب «الحوار أسلوبا للعيش» للمفكر المغربى «على بن مخلوف». ويعتبر هذا العمل إسهاما فى إضاءة هذا الوعى، إيمانا منه بأن الحوار يأخذ عن طريق الكلام شكلا حضاريا، ويبتعد عن ضروب الاستعراض، وعرض المذاهب، ناهيك بكونه يتخطى أشكال الصراع الأيديولوجى.
الحوار كما يقول «سوريو» هو «الشكل الفلسفى الممتاز»، بيد أن الأفكار أكثر ما تكون فلسفية عندما يستطيع من يفكر فيها من الداخل أن يبحث عن وجهها الخارجى. إذ يحد الحوار ــ بما هو فعل مستمر فى الزمن، أو بما هو فعل لا يعرف انقطاعات وتوقفات ــ من سطوة النهايات المغلقة، وعنف الإجابات الجاهزة، وسقم المسلمات المطلقة. إنه فعل حيوى لا يكف عن تحويل الأجوبة إلى أسئلة جديدة، تنتفض أمام مناورات آباء الكهنوت الذين يسعون إلى تأبيد قدسيتهم الساحقة، بتكريس ثقافة الخنوع والعبودية، والإذعان والتصديق، والسكون والتقليد.
إنه من البديهى أنْ «لا حوار من دون حرية، أعنى الحرية التى يتجاوب فيها الفرد مع المجتمع، والتى تحكم العلاقة بين المبدع والمتلقى، وأشكال الخطاب بين المفكر والمفكر به، الحرية التى تنتقل من خارج الفرد إلى داخله، والتى تختفى معها القيود السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية كلها» (جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير).
***
من هذا المنطلق يسعى المفكر المغربى «على بن مخلوف» فى مصنفه الأخير: «الحوار أسلوبا للعيش» ــ الصادر عن منشورات ألبان ميشال الفرنسية ــ إلى الإسهام فى إضاءة هذا الوعى، إيمانا منه بأن الحوار يأخذ عن طريق الكلام شكلا حضاريا، ويبتعد عن ضروب الاستعراض، وعرض المذاهب، ناهيك بكونه يتخطى أشكال الصراع الأيديولوجى ذى اللبوس الجدلى كلها.
ولعل الكلام الملغز والمشفر، هو ما يجعل طريق الفهم مفتوحة أمام مداخل متعددة. فنحن نتحاور لكى نغذى شكوكنا لا لكى نزيد من وطأة يقينياتنا، كما أن التركيز على قيمة الحوار، بما هو تبادل للكلام لا ينتقص من شأن فعل الكتابة، بقدر ما يزيده حيوية وانتعاشا. على أن الخطاب لا يتحدد فى كونه مجموعا منظما لما ننتجه من قول، ولا فى الطريقة التى ننتجه بها، وإنما فى ما لا نقوله، أى فى ما نخفيه، بل يتمظهر فى أفعالنا وسلوكاتنا ايضا. إنه مجموع المعانى المقيدة والمقيدة التى تنتشر عن طريق العلاقات الاجتماعية.
ويدل استحضار على بن مخلوف لأطروحة ميشال فوكو حول موضوع الخطاب، إلى أهميتها وجريان مفعولها، ودلالتها القوية، على أن إنتاج الخطاب فى كل مجتمع، هو فى الوقت نفسه إنتاج مراقب، ومنتقى، ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التى يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره، والتحكم فى حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة. إننا نعرف طبعا، فى مجتمع كمجتمعنا، إجراء الاستبعاد. أكثر هذه الإجراءات بداهة، وأكثرها تداولا كذلك هى المنْع. إننا نعرف جيدا أنه ليس لدينا الحق فى أن نقول كل شىء، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شىء فى كل ظرف، ونعرف أخيرا ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أى شىء كان. هناك الموضوع الذى لا يجوز الحديث عنه، وهناك الطقوس الخاصة بكل ظرف، وحق الامتياز أو الخصوصية الممنوحة للذات المتحدثة: تلك هى لعبة الأنواع الثلاثة من إجراءات المنع التى تتقاطع وتتعاضد أو يعوض بعضها البعض، مشكِّلة سياجا معقدا يتعدل باستمرار. أشير فقط إلى أن المناطق التى أحكم السياج حولها، وتتضاعف من حولها الخانات السود فى أيامنا هذه هى مناطق الجنس والسياسة: وكأن الخطاب، بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذى يجرد فيه الجنس من سلاحه وتكتسب فيه السياسة طابعا سليما، هو أحد المواقع التى تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. يبدو أن الخطاب فى ظاهره شىء بسيط، لكن أشكال المنع التى تلحقه تكشف مبكرا وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة وبالسلطة. وما المستغرب فى ذلك مادام الخطاب ــ وقد أوضح لنا التحليل النفسى ذلك ــ ليس هو ما يظهر فقط «أو يخفى الرغبة، لكنه أيضا هو موضوع الرغبة. وما دام الخطاب ــ والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك ــ ليس هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة فحسب، لكنه هو ما نصارع به، وهو السلطة التى نحاول الاستيلاء عليها» (ميشال فوكو، نظام الخطاب).
يسعى الخطاب بحسب بن مخلوف إلى جعل الآخر قريبا من القول، إنه يعامل الآخر وكأنه ماثل أمامه، إذ نتخيل ونحن نقرأ رسالة أن صاحبها يقرأ كلماتها، وأنه ثمة ابتسامة ترافق هذه القراءة، وهذه عملية يمكننا أن نباشرها من دون معرفة الآخر الذى يخاطبنا؛ بيد أن القراءة هى حوار مع أشخاص ينتمون إلى الماضى، كما أوضح ذلك ديكارت فى كتابه البديع «مقالة فى المنهج».
يهدف مصنف على بن مخلوف إلى تقديم بعض النظريات العامة، التى تم صوغها حول موضوع الحوار، مستنطقا النماذج التى عرضها مونتاني Montaigne، ونخص بالذكر كتابه: «فن التحاور». ومن أجل ذلك يدعونا بن مخلوف إلى مشاركته رحلة طويلة ومشوقة سنقف من خلالها على نماذج من الأدب والفلسفة تركت بصمتها فى تاريخ التجربة الإنسانية المشتركة؛ فمن مناخ القرن التاسع عشر الأنغلوساكسونى، حيث لويس كارول وجاك غودى وجيمس أج، يعرج بنا بن مخلوف إلى أجواء القرون الوسطى، وبالضبط بغداد القرن العاشر، حيث التوحيدى والفارابى، ليستقر بنا بعد ذلك على ضفة الأسئلة السيميائية التأويلية، وما يرافقها من أطروحات ذات لبوس ألسنى تداولى، وفى ارتباط مع هذه القضايا السيميائية، يقدم لنا بن مخلوف، الحوار كشكل من أشكال التعلم، يضم عناصر فيها من اللعب والمرح ما يسهل عملية نخزنها فى الذاكرة. فمن دون هذا اللعب سيتهدد التلميذ الناشئ خطر الوقوع فى إشراك الملل والرتابة والسأم، الذى وسم حالة «أليس» فى بداية حكاية لويس كارول الرائعة: «مغامرات أليس فى بلاد العجائب». «أليس» التى كانت تجلس مع أختها الكبرى فى حديقة البيت، هاته الأخيرة التى كانت تحدثها عن العالم من خلال كتاب من كتب التاريخ، ولكن «أليس» لم تكن تصغى إليها، لأن الكتاب افتقر إلى الرسوم والصور التوضيحية والمحاورات والمناقشات، ويحث عوض ذلك على الحفظ واستظهار القواعد النحوية بشكل ميكانيكى، هذا ما جعل «أليس» تفكر فى عالمها الخاص، وتحلق بعقلها الصغير وخيالها المجنح بعيدا من أرض الواقع.
والحوار بما هو مغامرة بطلتها العبارة، لا يحيى الكلمات وينعشها فحسب، ولا يبحث كما هو حال فلوبير وبروست عن الحياة خلف الكلمات وفى داخلها، وإنما عن طريقها وبها يحد من خطر الصمت، ويتيح إمكانات إنقاذ الآخر، ويرسخ بالتالى الوظيفة الحيوية للحوار والتحاور، والتى من خلالها لا نتبادل الكلمات فقط وإنما الأجساد أيضا. يرمى بن مخلوف من خلال مصنفه هذا إذن، إبراز مدى فاعلية الكلمات وحركيتها.
****
ترى هل تفسد الكتابة الحوار؟
كلا، فالكتابة خزان. إنها أرشيف شاهد على أهمية الكلام، فمراسلات فلوبير وآثار مونتانى ومذكرات سان سيمون ومغامرات «أليس فى بلاد العجائب» للويس كارول، وغيرها كثير، تبرز غنى الأساليب والترنيمات والإيقاعات، ونفسْ الكلمات ومختلف الأصوات المنبعثة، وأثرها فى تحقيق عمليات الفهم وإنعاشها، إذ يجتمع هؤلاء الكتاب والفلاسفة كلهم، بحسب على بن مخلوف، من ضمن دائرة الكتابة الشفوية. وتنقلنا كتاباتهم مباشرة إلى عالم الحوار، كل بطريقته الخاصة يلح على شكل شخصياته وصوتها، ويسلط الضوء على تعدد أشكال تعبيراتها ونطقها.
يرفض على بن مخلوف آراء المتصوفة الملتفين حول حلقة المعنى الواحد الأوحد، والذين يحملون على الاعتقاد أن الكلمة حمالة معنى وحيد، وأنه من خلال الكلمات ينبجس هذا المعنى فقط. إنهم يروجون لأسطورة عظمى ذات محور صلد يصعب اختراقه؛ بيد أن لعبة الالفاظ المتجانسة ذات المعانى المتباينة (HOMONYMIE) التى وظفها لويس كارول، تظهر على شكل إرادة قوية تسعى إلى وضع حد لطباع المعنى السريالية التى تقدمها الكتابة ذات البعد الواحد والوحيد.
ويختم على بن مخلوف مصنفه الشيق بسؤال ذى طابع بيداغوجى: هل من الضرورى المرور عبر الحكاية والرسوم المتحركة، والأطفال مثل «أليس» وشخصيات أخرى حتى نأخذ الحوار على محمل الجد، أى من أجل مزج التركيبات الشعرية بالواقعية؟
إجابة منه عن هذا السؤال، يرى بن مخلوف أن التجريد الرياضى والتخييل الشعرى عنصران متعارضان ومتباعدان، لا يمكن إلا للحوار أن يسلط عليها الضوء، ويضعهما جنبا إلى جنب. بيد أن التفكير الصارم، المتشابك التعقيد، يمكن ترجمته إلى صيغ تبادلية، فيها من الأخذ والرد فى الكلام، والفكاهة والمرح، بما يسهل إمكانات تخزينها وحفظها فى الذاكرة.
النص الأصلى: