تعددت المحاولات لتناول تراث مصر الفرعونية فى السينما المصرية. وكانت كل هذه المحاولات تمتاز بتناول تاريخ وآثار مصر الفرعونية بنوع من السطحية والخفة فى إطار قد يكون من الكوميديا أو الدراما الخفيفة إلى أن جاء الفرعون العاشق شادى عبدالسلام.
وشادى عبدالسلام هو فرعون السينما المصرية بلا منازع!
وُلد المخرج الظاهرة شادى عبدالسلام عام 1930 فى الإسكندرية وعاش بينها وبين المنيا التى تنحدر عائلته منها. فكانت المنيا بالنسبة له المصدر والإلهام حيث تعرف على تراث مصر الفرعونية الذى توارثه أهلنا فى الصعيد عن أجدادنا الفراعنة من خلال العديد من المظاهر الحياتية والعادات والتقاليد والصفات وحتى لهجة الكلام. فتأثر العبقرى بكل هذا وترسب فى وعيه ومخيلته وأفرزه فى أعمال إبداعية خالدة.
ومال العبقرى فى طفولته إلى الرسم والقراءة والعزلة. وسافر إلى باريس ولندن وروما فى سن صغيرة كى يدرس المسرح، لكن المحاولة لم تنجح، فعاد إلى مصر وتخرج فى قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة عام 1954 وكان تلميذا للعبقرى حسن فتحى. وأثناء خدمته العسكرية، تعرف إلى جميع طوائف المصريين وثقافتهم وفئاتهم المختلفة بعمق وعن قرب.
وكانت بداية دخوله السينما من خلال المخرج صلاح أبوسيف فى فيلم الفتوة. ثم عمل معه مساعد مخرج فى أفلام «الوسادة الخالية» و«الطريق المسدود» و«أنا حرة». ثم عمل مع هنرى بركات وحلمى حليم فى فيلم «حكاية حب» الذى قام بعمل الديكور له، فلفت النظر إليه بشدة، فانهالت الأعمال عليه. فعمل ديكور فيلم «الناصر صلاح الدين» و«وا إسلاماه».
وكان فيلمه الروائى الطويل الأول «المومياء» أو «يوم أن تحصى السنون» عام 1969 العلامة المهمة والفارقة فى مسيرة شادى الإبداعية الحافلة، والذى اعتبره النقاد فى العالم أجمع واحدا من أهم الأفلام فى تاريخ السينما العالمية. وكان الفيلم حالة تعبيرية شجية وجمالية صادقة عن الهوية المصرية الغائبة. وعبر فيه عن الذات المصرية من خلال الاتكاء على التراث المصرى العريق ممثلا فى مصر الفرعونية وثقافتنا عنها آنذاك محاولا بعث وإحياء هوية مصر الضائعة بعد الهزيمة.
ويعد فيلمه الروائى القصير «شكاوى القروى الفصيح» أنشودة لتمجيد العدل والحق من خلال ذلك الفلاح الذى رفع صوته بالشكوى إلى الحاكم معترضا على الظلم البين الذى تعرض له من قبل أحد كبار موظفيه، فاستمع له الحاكم. وبعد عدة شكاوى، نصره وأعاد إليه حقه المسلوب. وأكد العبقرى فى هذا الفيلم على تجذر العدل وميلاد العدالة فى مصر القديمة التى اخترعت الضمير وأبدعت الكتابة وأنتجت للعالم كله فكرة «الماعت» أى العدالة والنظام والتوازن الكونى.
***
ودخل العبقرى إلى أعماق الروح المصرية مبدعا أعمالا لم تبح فيها مصر بأسرارها إلا له وحده، فكانت أعماله المهمة «آفاق» و«جيوش الشمس» و«كرسى توت عنخ آمون» و«الأهرامات وما قبلها». وأبدع عمله الفذ «مأساة البيت الكبير» عن فرعون التوحيد المصرى الخالد الملك الفيلسوف أخناتون. وفى ذلك العمل، الذى لم يُكتب له أن يرى النور، موضحا فيها الصراع بين الخير والشر، بين أخناتون وكهنة رب مدينة طيبة الإله آمون رع الذين شكلوا دولة ضد الدولة.
لم يكن شادى عبدالسلام مخرجا عبقريا فحسب، بل كان أيضا كاتب سيناريو ومصمم ديكور وملابس ورساما ومصورا ومعماريا ليس له مثيل، وفوق ذلك كان صاحب قضية يحب الدفاع عنها وتوضيحها باستمرار، وهى أين ذهب تاريخنا المجيد وكيف يمكن أن نستعيده وكيف نصل بين ماضينا المشرف وحاضرنا الحالى.
لقد كان العبقرى شادى عبدالسلام على المستوى الإنسانى والفنى، وعلى كل المستويات، فنانا يتنفس الفن فى كل لحظة من حياته. لقد كان فنانا يقطر سحرا ورقة وشاعرية وفخامة وجمالا. وكانت له قدرة غريبة على القبض على الزمن وإثارة الشجن والأسئلة المكبوتة داخلنا من أجل نبش الماضى ومواجهتنا بالموت وبحلمنا الأبدى بالثراء، لكن من خلال عين العبقرى ورؤيته الجمالية والفنية والفكرية التى لا تبارى.
***
شادى عبدالسلام فنان مصرى قديم عاش فى زمننا الحديث. وتقمص روح فنانى مصر الفرعونية العظام أمثال تحوتمس وباك وغيرهم. وعاش فى زمننا لفترة. غير أنه سئم العيش بيننا. فعاد إلى أجداده الفراعنة كى يعيش بينهم فى سلام. لقد كتب لفن شادى الخلود مثله مثل أجداده الفراعنة سواء بسواء.
وفى النهاية، أردد مع العبقرى مفتتح فيلمه العلامة المومياء «يا من تذهب ستعود، يا من تنام سوف تنهض، يا من تمضى سوف تُبعث، فالمجد لك، للسماء وشموخها، للأرض وعرضها، للبحار وعمقها، يوم أن تُحصى السنون».
وأدعو إلى خروج فيلم شادى عبدالسلام المهم «مأساة البيت الكبير»، عن فرعون التوحيد الملك أخناتون، إلى النور، وفى ذلك أقل تقدير يمكننا أن نقدمه إلى روح فرعون السينما المصرية المبدع الكبير شادى عبدالسلام.
سلام على روح العبقرى شادى عبدالسلام فى الأولين وفى الآخرين فى حقول «الإيارو» أو «جنات الخلد» حيث تخلد أرواح فراعين مصر العظام الخالدين.