«مجتمع الاستهلاك» و«الاغتراب الحضارى» الراهن..! نحو رؤية اجتماعية ــ فلسفية - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«مجتمع الاستهلاك» و«الاغتراب الحضارى» الراهن..! نحو رؤية اجتماعية ــ فلسفية

نشر فى : السبت 6 فبراير 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : السبت 6 فبراير 2021 - 7:15 م

لَفَتَنى أن قرأت على أحد مواقع الشبكة العنكبوتية الإخبارية المنوّعة يوم 22 ديسمبر 2020 أن واحدا من ألمع رؤساء الحكومات العربية، ومن أكثرهم نشاطا وذكاءً، قد افتتح له (حسابا) على «تطبيق» (تيك توك)، ذاكرا ما معناه أنه لا يجوز أن يظل العرب بعيدين عن حركة العالم، وأن الموقع المذكور يؤمّه نحو ثمانمائة مليون إنسان، فلا يسوغ أن نبتعد عنه. ويُذكَر أن النزاع على هذا «التطبيق»، قد أثار خلافا شديدا بين إدارة «ترامب» الأمريكية الراحلة وبين الصين، وأنه وصل إلى القضاء، حيث رفضت محكمة أمريكية طلبا تقدمت به تلك الإدارة لبيع حصص حاكمة فيه إلى شركات أمريكية خالصة. ويحقق هذا التطبيق لمالكيه من الصين أرباحا عظيمة، علما بأنه يختص بنشر المقاطع المصوّرة المسموعة – «فيديوهات» ــ وأن كثيرا مما ينشر عليه يدور حول ما يتداوله الجمهور العالمى «المُعَوْلَم» الآن، مما يدخل على الأغلب فى باب «التسلية» أو «الترفيه».
وإنّى لأعْلم أن أدوات التواصل المهيمنة على الفضاء الاجتماعى ــ الثقافى العالمى الراهن، شأنها شأن ما سبقتها بعيدا أو قريبا، وخاصة المذياع والسينما والتلفزيون، يمكن أن تستخدم وفق ما يريد المشغّل الإنتاجى والمستهلك الفردى والجماعى (وأحيانا السلطة السياسية أيضا)، فإن أردت أن تسمع وترى جدّا من الجدّ فهذا لك، وإن أردت هزلا أو ما دون ذلك فهو متروك لك أيضا..!
نعلم ذلك، وأن من السهل الرد المسبق على الحجة المستخفة بقليل أو كثير مما تذيعه تلك الأدوات (التواصلية)، ومن أحدثها «تيك توك»، بأنها كما تستخدم الآن فيما يتصل بمجرد الترفيه على مذهب ما كان يقال (الفنّ للفنّ) فإن من السهل، أو من الممكن على الأقل، أن يذهب المرء مذهبا آخر مختلفا تماما على سبيل (الفن للمجتمع..!).
***
نعلم ذلك كله، ولكنا نعلم أيضا أن «التطبيق» محل النقاش هو فى «التحليل الأخير، إحدى الوسائل التى يتذرع بها «مجتمع الاستهلاكى العالمى الراهن لقضاء وقت الفراغ، أو تزجية الوقت فيما يفيد وما لا يفيد.
ذلك أن الحضارة العالمية السائدة، والتى أنتجتها الرأسمالية الأوروبية منذ قرون، ثم الأمريكية، تقسم حياة الإنسان اليومية إلى قسميْن: وقت العمل، ووقت يقال له الفراغ. ونعلم أن وقت العمل فى معظم الدول الصناعية المتقدمة اقتصاديا، قد أخذ يتقلص مداه الزمنى، بحيث بات فى عدد منها قد لا يزيد عن ساعات معدودة فى الأسبوع، كما نعلم أن وقت الفراغ أخذ يتسع ليأخذ حيزا متزايدا من الزمن للفرد المعاصر والجمهور.
ولكن فى أحوال كثيرة، لعلها الأغلب، يقضى (الإنسان العاديّ) سحابة نهاره وشطرا من الليل فى العمل أو ما يتصل به، وربما الشطر الأكبر من ذلك الليل أيضا، كما هو الحال فى أحيان وأحوال كثيرة حتى فى أمريكا واليابان. أما (وقت الفراغ) فحدّث عنه ولا حرج، فلا يكون غالبا إلا فيما يسمى (عطلة نهاية الأسبوع) وتتوزع بين الراحة التامة وبين ما دونها أو أفضل منها.
وما بين وقت العمل ووقت الفراغ يظل إنسان العصر الراهن (مطحونا) فى دوامة العيش من أجل البقاء أو من أجل زيادة دخله النقدى لمقابلة الاحتياجات الطارئة ممّا جادت به قرائح ربابنة النظام الاقتصادى من (طيبات) الاستهلاك إن توافرت. وربما يقضى الفرد جلّ وقته فى محاولة اللحاق لاهثا بالنذر اليسير من الطيبات وأشباهها، أو «الضروريات» فى معظم الأحيان. وفى أحوال أخرى تخصّ (القلة الثرية) يكون همّها جمع المال، وتكاثر الثروة، وتراكم رأس المال، لمجرد الجمع والتكاثر والتراكم، حتى يقضى، ثم يترك من ميراثه المادىّ الكثير أو القليل من أجل (التجدّد الحضارى) المزعوم..! سعيا فى النهاية إلى «تعظيم الربح» وفق القانون الرأسمالى الأثير، من فوق حطام الإنسان المعزول..!
***
وهكذا الحال فى ميادين أخرى كانت لتقع أصلا فى صلب البناء الأساسى الحقيقى للإنسان، وخاصة الفن والرياضة البدنية، حيث تحول كلاهما إلى نشاط ربحى خالص، وأداة من أدوات استلاب واغتراب البشر المعذبين.
ألا وإن تلك هى الرأسمالية..! الرأسمالية التى أقامت بناء اقتصاديا فى بلدانها الأصلية فى أوروبا ثم أمريكا منذ مطلع العصر الحديث، وكذلك اليابان فى حدود معينة، وقد سعت إلى تطبيقه خارج حدودها، بالقوة القاهرة، أو الاستعمار.. وهو بناء يقوم على المزيد ثم المزيد من التصنيع والتقدم التكنولوجى، ولكن مع تفاوت اجتماعى طبقى عميق، وظلم قومى لا يخفى. ومع وعد بتحقيق (الرفاهية) أو (الرفاء) ومن ثم لون من (السعادة)..! فإذا بها تتكشّف عن النقيض: تقدم لدى البعض، و«غير التقدم» عند الآخرين.. وفى الحالتين نزع لإنسانية الإنسان. وهذا ما يسمى فى أدبيات الاقتصاد والاجتماع والفلسفة وعلم النفس بالاستلاب أو الاغتراب alienation حيث يسلب من الإنسان جوهره المكنون، المنتزع، فيغترب عن ذاته كأنه منشّق إلى نصفين وأكثر، أو كأنه ليس هو بحقّ، فهويته مضيّعة على أيدى النظام الاقتصادى ــ الاجتماعى المسيطر.
هذه هى الحقيقة التى حاولت تفسيرها مذاهب فلسفية شتىّ طوال العصر الأوروبى الحديث وخاصة فى القرنين التاسع عشر والعشرين، امتدادا لفلسفات وآداب العصر العربي ــ الإسلامى الوسيط. وتلك الآداب والفلسفات العربية ــ الإسلامية مختلفة المشارب جدا، من أمثال أعمال الفارابى وابن سينا والغزالى وابن رشد، ومتكلّمى المعتزلة «أهل العدل والتوحيد»، و«إخوان الصفا»، وابن طفيل، وابن حزم الأندلسى فى «طوق الحمامة» وغيرهم كثير..!
وفى القرن الثامن عشر الأوروبى جاء (كانط) بفلسفته النقدية من بعد «ديكارت» فى القرن السابع عشر، صاحب (الكوجيتو) الشهير (أنا أفكر... إذن أنا موجود)، وفيلسوف «الشكّ المنهجى» على رأى طه حسين، «عميد الأدب العربى». ثم جاءت فلسفة هيجل (1770ــ1831) فى (ظاهريات أو «فنومنولوجيا» الروح 1807)، عاملة على حلّ اللغز البشرى فى التاريخ. ومن بعد هيجل أتى كارل ماركس (1818ــ83) وخاصة فى كتاباته الشابّة ومؤلفاته الأولى: (الإيديولوجية الألمانية) و(المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844). وقد غطى كتابه الاقتصادى العمدة (رأس المال) على النزعة «الإنسانوية» القديمة المتوثبة، حتى حسب الناس أنه لم يكتب غيره. وانتظر عالم الفكر لما بعد الحرب العالمية الثانية، عقب عام 1945، لتحاول وجودية «جان بول سارتر» فك اللغز البشرى عبر ثنائية (الوجود والماهية) فى كتاب «الوجود والعدم» ثم، وهو ربما الأهم، فى: «نقد العقل الديالكتيكي ــ الجدليّ». أما عن كتابات الماركسيين المجدّدين بعد الحرب العالمية الثانية والعائدة إلى كتابات (ماركس الشاب) فحدّث ولا حرج، حيث هنرى لوفيفر، وجورج لوكاش، وروجيه جاردوى (رجاء جاردوى من بعد).. ودعْ عنك كتابات جماعة (البنيويين) فى الستينيات من القرن العشرين، مثل رولان بارت وجوليا كريستيفا. ولا ننسى جاك دريدا (رائد «التفكيكية»). أضف إلى ذلك كتابات «الحداثيين» و«ما بعد الحداثيين»، وخاصة من فرنسا، مثل بيير بوردييه وليوتار وجاك لاكان. ونذكر أعمال ميشيل فوكو وخاصة (حفريات ــ أركيولوجيا ــ المعرفة) و«هابرماس» البحّاثة فى «مسألة الفضاء الاجتماعى»، وكذا كُتّاب «مدرسة فرانكفورت» السوسيولوجية منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم، مثل «أدورنو».
وأما هربرت ماركوز فقد أجاد فى تشريح الجانب الفلسفى لأحادية البناء الإنسانى فى النظام الرأسمالى، وخاصة فى كتابه (إيروس والحضارة) أو «الحب والحضارة»، حيث «إيروس» إله العشق عند الإغريق، وكذلك كتابه عن هيجل (العقل والثورة: ترجمة فؤاد زكريا)، وكتابه الذى لا يُمحى أثره (الإنسان ذو البعد الواحد) one – dimensioned Man والقائم على معارضته قمع الرأسمالية لما أسماه (طاقة التفتح الحيوى) لدى الإنسان. ولقد كان ماركيوز بمثابة نبىّ ثورة الشباب فى الغرب أواسط الستينيات للقرن العشرين، انطلاقا من فرنسا بالذات عام 1968، وفى أمريكا نفسها، ثم سائر العالم، حيث سادت حركات التمرد الشبابى الوثّابة ولو فى شكل (فوضوى) مثل «الهييبز« وغيرهم، انقلابا على مفاهيم «مجتمع الاستهلاك» الرأسمالى الغربى، القديم منه والجديد.
***
وقد حاولت الرأسمالية على إثر ثورة الشباب تلك، وتمرد الجيل، أن تغير جلدها وإن لم تغير قلبها، وذلك ما عنونه البعض: (الرأسمالية تجدد نفسها). ولكنّها إنما جددت وسائل بقائها بنفس جوهرها: التقدم المادى بغير روح، والظلم الطبقى والقومى المقيم. وها هى تطلّ علينا كل يوم وما فتئت تجدد وسائل سيطرتها الأحادية على الناس، وأحدث وسائلها أدوات التواصل التقنى ــ الاجتماعى المتقدم تكنولوجيا، ومن بينها تطبيق «تيك توك» الذى افتتحنا به هذا المقال.
وهذه منّا، مقاربة أولية جدا، فى محاولة للمزج بين المنظوريْن الاجتماعى والفلسفى فى مجال البحث «الإنسانى»، أو ما يمكن أن نطلق عليه «الاقتراب السوسيو ــ فلسفى»..! ونأمل استكمالها ومن ثم تعميقها على أيدى المجدَّدين، وهمْ كُثْر على كل حال، فى مصرنا العزيزة وسائر الوطن العربى الكبير.

أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات