المتابع الجيد للجمهورى دونالد ترامب الرئيس الأمريكى السابق، والمرشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، بإمكانه ملاحظة عدد من الاختلافات فى الأداء السياسى لترامب، فمنذ 2016 ومع تصدره المشهد السياسى، وهو الرأسمالى ورجل المال والأعمال، وقد أحدث حالة من الاختلاف السياسى، بدأت بغياب واضح للنضج السياسى برز فى تصريحاته وقراراته السياسية، خصوصا المناظرة التى خاضها مع المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون آنذاك وجاءت بمجموعة من القيم الدخيلة على المشهد الأمريكى، غير أنها اعتبرت منطقية فى إطار المنافسة الأمريكية على البيت الأبيض والتى قد يتطرق فيها المرشح إلى تسليط الضوء على سقطات منافسه، دون محاولة الاتجاه إلى توجهاته وبرامجه وإيضاح محاورها، إلا أن مناظرته مع منافسه بايدن 2020، اعتبرت الأسوأ فى تاريخ المناظرات الأمريكية، لما سجلته وقتها من تراشق بالاتهامات والفضائح بين المتنافسين، وساهمت فى استياء ملايين الأمريكيين، ولعل المناظرة التى خرجت عن حدود اللياقة، وهى نفسها الأكثر بعدا عن أطر التحضر، شكلت بدورها مجموعة من المفاهيم الدخيلة على الولايات المتحدة، صاحبة أرقى وأعرق المدارس السياسية، بل ويمكننا القول إن أمريكا هى من استقبلت أصول السياسة وعلومها، لا سيما خلال الفترة التى تلت القرن الثامن عشر ومنذ أن استقلت عن بريطانيا، كما عاصرت مناظرات عديدة عكست بحق مواقف وطباع لمرشحين صنفت أكثر من راقية، إن كانت التى أجريت بين كيندى ونيكسون، وتجلت فيها الثقة بالنفس، كأبرز معايير تقييم المرشح، أو تلك التى عقدت بين ريجان ومونديل، وفيها استخدمت الحنكة السياسية، وتم توظيفها بشكل متزن، وغيرها من مناظرات طالما أضفى عليها النضج السياسى، وهو ما سلطنا عليه الضوء مرارا وإبان الانتخابات الأمريكية السابقة.
فإذا كانت المناظرات أعدت وجهزت خصيصا من أجل توضيح السياسات والقناعات الخاصة بالمرشحين، إلى جانب السياسات والمقرر انتهاجها تجاه العديد من القضايا المختلفة سواء داخليا أو خارجيا، والأهم صياغة إطار شامل منوط به توجيه الناخب الأمريكى وتمكينه من اتخاذ القرار واختيار رئيس البلاد، فماذا أضافت مناظرات مرشحى أمريكا فى عصرنا هذا؟!
وبالرغم من حالة الشرعية التى افتقدها ترامب فى الفترة ما بين 2016 ــ 2020 وإبان تقلده مقاليد الأمور بالدولة العظمى، على إثر الخلاف الدائم ما بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية، والذى طالما تصدره ترامب عبر مجموعة من القرارات المتشددة، تعلقت بالانسحاب من عدة من الاتفاقيات الدولية، مع الإصرار على بعض القوانين المناهضة للمهاجرين وبعض الفئات الأمريكية، أيضا اتخاذ بعض الإجراءات أضرت بالموازنة العامة للبلاد، وتسببت فى حالات عدة من الإغلاق الحكومى نهاية كل عام، ليختتم حقبته 2020 بسابقة ربما لم تشهدها أمريكا فى العصر الحديث، تمثلت فى أحداث اقتحام الكابيتول، ما تم رصده على المستويين الإقليمى والدولى وعرف آنذاك بالانتكاسة الأمريكية، ناهيك عن مجموعة من القضايا ما زالت تلاحقه حتى وقتنا هذا، وهددته فى أكثر من ولاية بحسب قوانين الولايات، إن كانت المتعلقة بالفساد وأحداث الكابيتول، أو الاحتفاظ بالوثائق السرية.
لكن مع الشرعية، والتى فقدها ترامب ولو بشكل نسبى، تمتع نفس الرئيس الجمهورى وقتها بحالة من المشروعية، فهمت فى سياق الرضا من قبل المواطن الأمريكى، والذى ارتضى بدوره بسياسات ترامب العنصرية، صاحبة الطابع اليمينى المتشدد، بل وارتأى فيها المصلحة والحفظ للكيان الأمريكى والهوية، وما ضاعف من قناعات هذا المواطن هو التوجه الاقتصادى لدى ترامب، ومن خلاله تطور الاقتصاد الأمريكى بمعدلات معقولة، برزت فى تراجع معدلات البطالة بنسبة بلغت 3.7%، ارتفاع متوسط دخل الساعة إلى 3.1% على أساس سنوى وهو معدل لم يتم الوصول إليه منذ 2008، والأهم ارتفاع معدل النمو للاقتصاد الأمريكى خلال الربع الثالث من العام الحالى ليتجاوز 3.5%، وإن كان العجز التجارى تخطى الـ1.3% ليصل إلى 54 مليارات دولار، وهنا يظهر رهان ترامب الحقيقى والمتعلق بالملف الاقتصادى ورضا المواطن الأمريكى، وجميعها مؤشرات سجلها الاقتصاد الأمريكى إبان حقبة ترامب وفى الفترة الوحيدة للرئيس الجمهورى من 2016 ــ 2020.
●●●
يعود ترامب فى انتخابات 2024، وقد بدا عليه النضج السياسى إلى حد يذكر وبينما يخوض الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهورى، خصوصا فى مؤتمراته السياسية والتى عقدها بولايتين حتى الآن هما أيوا ونيو همشاير، نفس الولايتين تمكن فيهما ترامب من الفوز على منافسيه الجمهوريين، وأبرزهم نيكى هايلى حاكمة ساوث كارولينا والتى تصر على الاستمرارية فى مواجهته حتى عقب انسحاب رون دسانتيس حاكم فلوريدا.
وفى أول خطاباته وعقب فوزه فى ولاية نيو هامشير، تمكن ترامب من إرساء قاعدة جديدة أو مفهوم دخيل على تركيبته السياسية، بحيث تقلصت إلى حد يذكر مفاهيم الإثارة والتى كان يحدثها وإن تعمد السخرية من منافسته، لكنه اتجه إلى بدء التركيز على القضايا الأكثر الأهمية بالنسبة للمواطن كقضايا الاقتصاد والحريات والأهم أمريكا العظمى، ويبدو أن المرشح الجمهورى قد تعلم الدرس وسيلعب على عدة أوتار من بينها التغيير فى تركيبته السياسية، مع التركيز على الداخل الأمريكى، وربما فترته الماضية وتمرسه على عدة من المعطيات داخليا وخارجا، قد تتيح له منافسة سلسة من غير المستبعد معها وصوله إلى البيت الأبيض.
ولعل عددا من المراقبين للأوضاع، يريدون لو أن يطالعوا بموقف ترامب فى الأحداث الدائرة والمتغيرات الجيوسياسية على المستويين الإقليمى والدولى، وإن كانت ثمة تخوفات من مواقفه تجاه فلسطبن وقضيتها الجوهرية، وهو الذى أحدث زلزالا بنقله السفارة الأمريكية إلى القدس، فى اعتراف ضمنى بتبعيتها لإسرائيل.
وليس من الضرورى أن ينم تغير تركيبته السياسية فيما يخص إدارة وهندسة وصوله إلى البيت الأبيض عن تغييرات فى قناعاته تجاه القضايا الدائرة على المستويين الإقليمى والدولى، فقد يلعب دوره إذا ما تقلد المشهد الأمريكى فى صياغة خريطة دولية جديدة بتوازنات مستحدثة، لا سيما تجاه القضية الفلسطينية والموقف الأمريكى من إيران.