ما زالت التوازنات الاستراتيجية، المفهوم الأقرب فى فهم الصراعات الدائرة فى المنطقة، تحديدًا ما بين إسرائيل وإيران، ذلك بعد أن كاد يغيب نفس المفهوم فى عدة من الصراعات الدولية، وربما الحاضرة ما بين الصين وتايوان، روسيا وأيضًا أوكرانيا، وكما أشرنا فى السابق أن حالة النزاع ما بين تل أبيب وطهران، مثلت النموذج الأكثر إيضاحًا فى الإشارة إلى مثل هذه النوعية من المفاهيم، فطالما ظل الصراع بين الجانبين عند نسبة معينة، حتى معظم الهجمات المتبادلة ومنذ اندلاع طوفان الأقصى قبل أكثر من عام، اعتبرت محسوبة ومدروسة بل متعارفًا على تداعياتها.
غير أن طبيعة الحراك العسكرى بين الجانبين وعمليات التخطيط الاستراتيجية والواضحة، والتى عادة ما تسبق ردود الأفعال، أبرزت إلى حد كبير حرص الأطراف كافة على عدم التسرع فى الرد، والأهم على الدراسة التكتيكية إن جاز التعبير لطبيعة ونوعية الهجمة وتوابعها، وهو ما برز جيدًا فى رد الفعل الإسرائيلى الأخير وكيف تغلف بالتعليمات الأمريكية، والتى ركزت على طبيعة الهجوم ونوعية المستهدفات، وبحسب البيت الأبيض فإن ضربات إسرائيل لإيران جاءت كتمرين للدفاع عن النفس، وأن التنسيق جرى ما بين أمريكا وإسرائيل من أجل رد محدد ومتناسب، أيضًا الرد الإيرانى على مقتل القيادى بحماس ورئيس المكتب السياسى إسماعيل هنية من قبل إسرائيل، كيف تعمدت خلاله طهران استغلال الوقت، لحين الخروج بضربة اعتبرت نوعية الحقيقة، وعلى خلفية الأسلحة الجوية المستخدمة وعدد الصواريخ الباليستية والمسيرات، ومع ذلك لم تكن هنالك خسائر بالمعنى المتعارف عليه، أضف مستجدات هذه النوعية من الصراعات والتى جاءت ضمن تكتيكات الطرفين وربما التى لم تكن لنعاصرها، تلك والمتعلقة بعملية إطلاع الخصم على مواعيد الهجوم وحجم المستهدفات! وكلها أمور تصب فى التأكيد على إدارة هذه التوازنات.
تحكم المصالح السياسية إيران إلى حد كبير، فى إدارتها لهذا الصراع، من ناحية تخوفها على برنامجها النووى والحرص على إتمام الاتفاق النووى مع الولايات المتحدة، أيضا السعى من أجل خفض العقوبات الاقتصادية وإن تمرست على التكيف معها، ذلك بالإضافة إلى صعود التيار الإصلاحى بالداخل الإيرانى، مع تصدر بزشكيان الرئيس الإيرانى الجديد ومحاولات التهادن مع واشنطن، ومن ثم لم ترغب طهران فى الانجرار ناحية الحرب الشاملة.
وبالرغم من أن دولة الاحتلال انتهجت سياسة الأرض المحروقة تجاه غزة متوجهة إلى لبنان، إلى أن مواجهتها مع إيران ما زالت محكمة بعدة محددات أهمها التوجيهات الأمريكية بالابتعاد عن المنشآت النووية، خصوصًا أن المشروع الإيرانى، ما يزال المصلحة السياسية الأهم بالنسبة لإيران، وربما أية انتهاكات ستجعل إيران تتغاضى عن أية توازنات متجهة ناحية الحرب الشاملة، وهو ما برز فى الهجوم الأخير، حيث اتجهت إسرائيل ناحية الأهداف العسكرية الإيرانية، سواء التى تعلقت بأنظمة الدفاع الجوى أو إنتاج الصواريخ، ولم تقترب من الأهداف النووية أو النفطية، أيضًا من المؤكد أن إيران قد تمكنت من أخذ الاحتياطات الكاملة تجاه حماية منشآتها النووية وحفظها على نحو بعيدًا عن متناول أعدائها، بالتالى فإن هذين المحددين قد يحولان دون أن تتحرك إسرائيل تجاه أية مستهدفات نووية إيرانية، وبغض النظر عن التوازنات الواقعة بين الطرفين، تظل التوازنات الأمريكية ما بين مصالح واشنطن فى المنطقة ودعم حلفائها من جانب وبين حتمية مواجهة الجماعات الجهادية وتأمين قواعدها من جانب آخر، المحرك الأساسى لكل هذه المصالح، شريطة أن تريد أو أن تتوقف عن الدعم العسكرى والسياسى وأيضًا اللوجيستى لحلفائها، سيما أنها ترى فى إيران المحرك للجهاديين بالمنطقة والقادرة على تحجيمهم.