من حسن حظ الدبلوماسية المصرية أنها تعرضت لاختبار ليبيا فى مجلس الأمن قبل بدء مصر فترة عضويتها فيه والتى تمتد من بداية 2016 إلى نهاية 2017. وتستدعى تجربة ليبيا أن تأخذ الدبلوماسية المصرية نفسا عميقا وأن تنظر فى مرآة النقد الذاتى الموضوعى لدراسة ما جرى ومحاولة الاستفادة منه بعدما هدأت الأصوات الصاخبة حول القضية.
ولتكن البداية بالمصارحة بأن الحصول على هذه العضوية لا يعد انتصارا لنا أو هزيمة لآخرين. فمن المعروف أن الدور جاء على مصر لدخول المجلس فى هذا التوقيت وذلك للمرة الخامسة فى تاريخها. إلا أن مطالبة الرئيس السيسى، من على منبر الجمعية العامة، للعالم بأن يدعم عضوية مصر قد ترك انطباعا أن هناك منافسة شرسة على هذا المقعد. إذ يمنح نظام تشكيل المجلس لأفريقيا وآسيا خمسة مقاعد غير دائمة، وتمثل أفريقيا حاليا نيجيريا وتشاد، وأنجولا، وستخرج نهاية العام نيجيريا وتشاد ليحل محلهما مصر (عن دول شمال القارة) والسنغال (عن دول غرب القارة). ولا يعنى ذلك غياب عملية التصويت لاختيار الأعضاء غير الدائمين، إذ يجب حصول العضو المرشح على أغلبية ثلثى أعضاء الجمعية العامة. إلا أنه فى حالة مصر والسنغال يعد تحصيل حاصل وتصويتا شكليا حيث لا ينافسهما أحد بناء على نظام الدور المتبع بين دول القارة الافريقية.
•••
منبع هزيمة الدبلوماسية المصرية فى مجلس الأمن يرتبط بعدم تفهمها أو تجاهلها لرؤية العالم للأزمة الليبية والذى يمكن تلخيصه فى وجود طرفين أساسيين ليس لأحدهما القدرة العسكرية على حسم الصراع. وزاد الأمر تعقيدا وجود برلمانين وحكومتين، برلمان منتخب نال اعترافا دوليا، وانبثق عنه حكومة مقرها طبرق فى الشرق، وبرلمان سابق منتخب انتهت مدته، ونتج عنه حكومة مقرها طرابلس فى الغرب. إلا أن المحكمة الدستورية الليبية، المعترف بها دوليا أيضا، أصدرت قرارا بحل برلمان طبرق. وزاد ذلك من إيمان الجماعة الدولية بضرورة التوصل لحل سياسى يشمل الجميع باستثناء الميليشيات الإرهابية.
واستباقا للتحركات المصرية، أصدرت الدول الغربية المهتمة بليبيا بيانا شديد الحسم ضد المطالب المصرية، وهو ما مثل صدمة للدبلوماسية المصرية، وذلك عشية بدء مداولات مجلس الأمن بخصوص ليبيا والتى شارك فيها الوزير المصرى بكلمة ضعيفة للغاية وغير مقنعة للجماعة الدولية.
استنكر بيان الدول الغربية (فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة) جميع الأعمال الإرهابية فى ليبيا وخص بالاسم جريمة قتل المصريين. رأى البيان أن جهود الأمم المتحدة لتأسيس حكومة وحدة وطنية تعد أفضل أمل لليبيين لمواجهة عدم الاستقرار الذى يعرقل التحول السياسى والتنمية. وانتهى البيان بما عده البعض رسالة للحكومة المصرية نصها "أما أولئك الذين يسعون لعرقلة هذه العملية وعملية التحول الديمقراطى لليبيا، بعد انقضاء أربع سنوات على الثورة، فإننا لن نسمح لهم بالحكم على ليبيا بالعيش فى الفوضى والتطرف. وإن الشعب الليبى والمجتمع الدولى سوف يحاسبهم على أعمالهم". واعتبر آخرون أن الرسالة لا تقتصر على مصر، بل تمتد لتشمل أيضا تركيا وقطر والامارات.
وهكذا بدت مصر وكأنها تغرد منفردة باتجاه تدخل دولى لحسم الصراع تحت مظلة محاربة الإرهاب. وتبعا لكل ما تقدم خسرت مصر دبلوماسيا وأصبح ينظر إليها كجزء من المشكلة وليس كجزء من الحل فى ليبيا.
•••
أخطاء خمسة يمكن حصرها تظهر ويمكن من خلال فهمها تحسين أداء الدبلوماسية المصرية مستقبلا خلال التواجد داخل مجلس الأمن:
1. خطأ وضع هدف مستحيل التحقيق ابتداء. فبعد شن هجمات جوية على أهداف فى مدينة درنة انتقاما لذبح 21 مواطنا مصريا، خرج بيان لوزارة الخارجية يذكر أن الوزير سامح شكرى سيتوجه لنيويورك لـ" قيادة التحرك الدبلوماسى المصرى فى الأمم المتحدة وحشد الدعم الدولى للتحرك فى ليبيا ضد الإرهاب". وقبل ذلك بساعات طالب الرئيس السيسى فى حوار مع "إذاعة أوروبا 1" باستصدار قرار من الأمم المتحدة يمنح تفويضا لتشكيل تحالف دولى للتدخل فى ليبيا، وبالسماح بتسليح حكومة طبرق.
2. خطأ استبدال الهدف المستحيل بآخرين لا يقلان استحالة. بعدما ظهر استحالة تحقيق الهدف الأول تم تخفيض سقف المطالب المصرية لتركز على تسليح قوات الجيش الليبى "قوات حفتر"، وهذا أيضا هدف لا يمكن تحقيقه لو أدركت الخارجية المصرية مقتضى موقف الدول الكبرى من الأزمة الليبية. بعدها تم تخفيض المطالب مرة أخرى لمجرد رفع الحظر عن الأصول الليبية فى الخارج ومنحها لحكومة طبرق. وهذا المطلب الأخير أيضا لا يتفق مع رؤية القوى الغربية التى ترفض تنفيذ أى من تلك السياسات إلا فى حال تشكيل حكومة وحدة وطنية.
3. قيام وزير الخارجية بخطوات مهمة لكن بترتيب معكوس. فالبداية كانت زيارته لنيويورك لبحث الأزمة الليبية بمجلس الأمن. ثم انتقل الوزير لواشنطن، ثم زار باريس ثم موسكو وبكين. ويثير هذا الترتيب استغرابا كبيرا حيث كان يجب على الوزير أن يبدأ بالحوارات الثنائية أولا من أجل فهم تصور الأطراف الدولية أولا وحشد الدعم بناء على ذلك الفهم ثانيا. ثم يختم أنشتطه بعرض القضية فى مجلس الأمن بدلا من أن تكون هذه هى أولى محطاته.
4. خطأ عدم التنسيق المسبق لضمان موافقة دول مهمة فى الملف الليبى مثل الجزائر وتونس.
5. اتباع سياسة التضليل الاعلامى. فقد خرج مانشيت لأحد الصحف المصرية يدعى أن "الغرب يتراجع أمام الدبلوماسية المصرية"، تبعه خروج بيان لوزارة الخارجية يدعى أن "العالم يزداد تفهما لوجهة النظر المصرية بخصوص ليبيا".
فى النهاية يجب على الدبلوماسية المصرية أن تعيد دراسة وفهم تعقيدات موازين القوى الدولية فى عالم اليوم حتى يكون أداؤها داخل المجلس مناسبا لتوقعات القيادة السياسية فى مصر.