الوضع الراهن مربك الى اقصى الحدود. والسبب الرئيسى أنه وضع لم يسبق له مثيل فى زمن الثورة الحالية أو قبلها. لا توجد تجربة سابقة يمكن الاستنارة فى ضوئها سواء كانت تجربة مصرية بحتة أو عربية قريبة أو حتى أجنبية.
مع ذلك فلسنا أمام نهاية العالم.
وإذا وضعنا فى اعتبارنا ما نردده يوميا عن عظمة مصر ورسوخها ونضجها وقدرتها على تخطى الصعاب فإن علينا أن نثق بأنفسنا ونثق فى قدرة وطننا على اجتياز هذا المفترق الخطر بسلامة وبسلام. إن عيون الأمة العربية كلها على اختلاف شعوبها ومواقعها السياسية والاجتماعية تتركز الآن علينا لترى كيف سنجتاز هذه المحنة. وهى فى هذا تعانى ما نعانيه نحن من شعور بأننا نواجه حالة غير مسبوقة وأن الخيارين اللذين يطبقان علينا كلاهما مر إذا استخدمنا اهون الاوصاف التى أطلقناها على هذه المحنة. وتتفاوت درجات الثقة بين الشعوب العربية فى قدرة مصر، وتتفاوت أيضا نواياها وأمنياتها بشأن ما سيكون بعد اضطرارنا إلى تحديد اختيارنا. ولكن الأمر المؤكد أن أنظار العالم الخارجى ترقبنا أيضا باهتمام ولكنه اهتمام متباين النوايا والأهداف. العيون الأمريكية غير العيون الروسية وهذه تختلف عن العيون الأوروبية والآسيوية والأفريقية واللاتينية. مصالح كل من هذه الدول والكتل والمساحات الجغرافية والاستراتيجية تختلف بشأن ما تريد أن تراه فى مصر بعد أن تحسم اختيارها.
●●●
أيا كان الحال فإن الأهم من كل شىء فى هذا الوضع الاستثنائى هو كيف نتعامل معه وكيف نعالجه. هذا اهم كثيرا من معرفة مواقف الآخرين منا ومن أزمتنا. ولن يكون بإمكاننا أن نعالجه إلا إذا استطعنا أن نقدر أهميته وخطورته تقديرا سليما. لا نستطيع أن نتعامل مع هذه المحنة إذا استهنا بها وبالأخص إذا بالغنا فى خطورتها وخطورة النتائج التى يمكن أن يسفر عنها اختيارنا اذا ذهب باتجاه الإخوان المسلمين أو إذا ذهب باتجاه النظام القديم. والأمر الواضح فى اللحظة الراهنة هى أننا نبالغ فى تقدير محنتنا أكثر مما نستهين بها. نبالغ حتى وإن كان الوضع يكشف عن أننا أصبحنا فى حالة نجد أنفسنا أمامها مطالبين بأن نختار أحد فرعى الثورة المضادة لتولى شئوننا الوطنية والقومية والعالمية خلال الفترة المقبلة. أليس هذا هو الخيار الذى يمزقنا سياسيا ونفسيا؟ ألسنا ندرك أننا إذا اخترنا الإخوان المسلمين لرئاستنا وقيادة بلادنا نختار الدولة الدينية وهذه تسلمنا إلى ثورة مضادة لثورة 25 يناير 2011؟ ألسنا ندرك أيضا ــ وأن بصورة أكثر يقينية ــ أننا إذا اخترنا الفريق أحمد شفيق لهذه المهام الكبيرة نختار العودة إلى النظام الذى أرادت الثورة نفسها إسقاطه وهذه تجسد الثورة المضادة فى صورة أخرى لا أقل ضررا ويمكن أن تزيد؟
ما معنى هذا إذا أردنا أن نجيب بتروٍ ودون فزع؟
صحيح أنه لا توجد تجربة سابقة يمكن الاهتداء بها. ولكن تدبر الأمر فى ضوء معطيات الاختيار المنتظر منا يدلنا على أن ما سيتسلمه منا أى من زعيمى الثورة المضادة لا يزيد على أربع سنوات من السلطة الرئاسية. وصحيح أن هذه السلطة غير محددة بحكم أن الدستور لم يجهز قبلها، إلا أن الحقيقة تبقى: ليس هناك ما هو أكثر من أربع سنوات من رئاسة الإخوان المسلمين أو أربع سنوات من رئاسة الجمهورية السابقة.
●●●
معنى رئاسة الإخوان المسلمين يمكن الاستدلال عليه من تجربة الأغلبية التى حازوها فى انتخابات مجلس الشعب. لكن هذه التجربة بحد ذاتها انكشفت وانكشف معها طمع الإخوان فى الهيمنة على مصر وثقافتها ومؤسساتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية. ولهذا يمكن الجزم بأن الشعب المصرى يعى ما تهدف إليه رئاسة الإخوان للجمهورية. نحن إذن بصدد أربع سنوات أخرى من مناورات الهيمنة الإخوانية على السلطة، بعدها يحين الموعد لانتخابات اخرى. هذا فى الحد الأقصى. أما ما دون ذلك فيمكن إذا تجاوزت مناورات الإخوان فى السلطة الحدود التى يمكن قبولها فإن الثورة على الأبواب. إن الشعب المصرى سيظل فى حالة تحفز واستعداد لإظهار قدرته على استئناف طريق الثورة بدلا من طريق الرضوخ لرئاسة الإخوان.
ومعنى رئاسة النظام القديم ــ بقيادة الفريق شفيق ــ للسلطة المصرية يمكن الاستدلال عليه بسهولة أكثر من الاستدلال على معنى رئاسة الإخوان. ذلك أن تجربة الشعب المصرى مع النظام القديم استمرت ثلاثين عاما لا أقل. الشعب المصرى لديه من الخبرة بهذا النظام ما يكفى لكشف كل التمويهات وعمليات التجميل التى سيحاولها فى السنوات الأربع القادمة. وهنا ايضا فإنه إذا ما زادت مناورات الرئاسة القديمة المتجددة عن الحدود التى يمكن قبولها فإن الثورة على الأبواب والشعب المصرى يملك القدرة على استئنافها وإعلان رفضه الرضوخ لرئاسة شفيق. وحتى إذا استمرت رئاسة النظام القديم بعد تجديدها أربع سنوات كاملة فإن الشعب المصرى الذى احتمل هذا النظام لمدة ثلاثين عاما قبل أن يثور مطالب بأن يمد فترة احتماله إلى 34 عاما لا أكثر(...)
ومعنى هذا وذاك أن الاختبار الذى سيخوضه الشعب المصرى ليس اختبارا له وحده.. إنه اختبار للقوتين المتنافستين على السلطة. ومدة الاختبار لا تتجاوز أربع سنوات وقد تقل. إنها ورطة الحكم وليست ورطة الجماهير.
●●●
ليست هذه نهاية العالم. لسنا نواجه لحظة مصيرية نعيش بعدها أو نموت. سنعيش على أى الأحوال. تنتظرنا فترة انتقالية أطول قليلا من الفترة الحالية. وتقرير المصير يبقى بأيدى الشعب المصرى كما كان الحال دائما.