ديمقراطية الصمت - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ديمقراطية الصمت

نشر فى : الأربعاء 6 يوليه 2011 - 9:03 ص | آخر تحديث : الأربعاء 6 يوليه 2011 - 9:03 ص

 يحرمون النطق بكلمة ثورة أو كتابتها. لم أصدق أنه فى ظل مناخ من حرية التعبير والهرولة إلى الديمقراطية سوف يأتى يوم أسمع فيه أن أفرادا أعرفهم صاروا يترددون قبل أن يقرروا المشاركة فى حديث عن موضوعات تتعلق بالثورة المصرية وربيع الثورات فى العالم العربى. من هم هؤلاء الذين يحاولون حرمان الناس من الكتابة عن الثورة أو النطق بها؟ وما هى أدواتهم؟ ثم هل صحيح أن هذا الحرمان واقع أم أنه نوع من تخيلات أثارتها تداعيات ضغط عصبى شديد وانهاك نفسى عنيف؟

•••


كانت الدعاية السياسية النازية تعتمد على أسلوب بالغ الذكاء لمنع المواطن من انتقاد أوضاع معينة بالكتابة أو الحديث. إذ دأبت أجهزة الإعلام مثلا على دس عبارة بطولة الشعب الألمانى فى كل مناسبة وفى غير مناسبة. كان الشعب يسمعها تتكرر مرارا فى خطب المسئولين وفى نشرات الأخبار ويقرأها فى مانشيتات الصحف وفى الملصقات على جدران المنازل وبيوت الراحة فى الشوارع ومحطات القطارات.

تبدأ حملة التوجيه المعنوى والأيديولوجى بالطفل فى رياض الأطفال والمدرسة الابتدائية بدس العبارة أو غيرها بكلماتها صعبة الفهم فى نشيد ينشده الأطفال فى طابور الصباح. كانوا يدسونها أيضا فى شعارات وهتافات تنطق بها حناجر غضة لم يعل صوتها من قبل إلا لقرصة جوع أو ألم، هى الآن تصرخ بأعلى صوت بعبارات أغلب الأطفال لا يدركون جدواها ولا يعرفون معناها. أذكر أننا كنا نساق فى الفجر إلى ميادين يحتشد فيها آلاف الأطفال نؤدى ألعابا ونرسم على الأسفلت تشكيلات وننشد أناشيد تمجد الوطن والملك أو الزعيم ونعود إلى أهلنا بضربة شمس وحرارة مرتفعة وكوابيس لا تخلو من عبارات التفخيم والتمجيد.

•••


كنت فى الصين عندما كان الرئيس ماوتسى تونج يطل علينا من كل نافذة نفتحها، أو باب نخرج منه، أو ظهر مقعد فى سيارة أجرة أو حافلة ركاب أو قطار تستقله. كانت الأناشيد أول ما يستقبل راكب القطار الرأسمالى القادم من هونج كونج وتسلمه للقطار الشيوعى الذى يسلمه بدوره إلى قطار أطول وأناشيد أقوى تبقى معه حتى يصل بعد ثلاثة أيام وأربع ليال إلى محطة العاصمة بكين وهناك تسلمه إلى مكبرات أعلى صوتا. كان للرئيس ماو كتاب أحمر وكان الأوسع توزيعا وانتشارا. كان يتصدر فاترينات المكتبات وينتظر المواطن فى غير تواضع وبدون استئذان على مقعده فى الطائرة وموائد الطعام فى المصانع والوزارات وفى الحدائق العامة. هكذا كانوا يمارسون المشاركة السياسية. فالسياسة كانت ببساطة شديدة تدور حول سيرة الرئيس ماو وحكمته وطفولته وذكائه، وهى الكتاب الأحمر الذى يعود إليه الفضل غالبا فى بناء السدود العالية وشق الأنهار وردم المستنقعات وتغيير مواقع الجبال وتحقيق النصر العسكرى ضد مواقع تايوان وقلاعها. لا حديث فى السياسة عن شىء آخر أو شخص آخر أو وقائع أخرى إلا بإذن، والإذن عند الرئيس.

•••


عدت إلى أوروبا وأمريكا لأكتشف عن قرب أن الناس هناك حيث حرية الرأى عقيدتهم لا تصدر عنهم كلمة يفهم منها أنها تحمل انتقادا لليهود ومشتقاتهم، كالديانة اليهودية وإسرائيل والصهيونية والمستوطنات وقتل الفلسطينيين أو تشريدهم على أيدى الإسرائيليين

. هناك لا تتحدث عن اليهود إلا بما يقوله اليهود عن أنفسهم أحياء كانوا أم أموات شيوخا أم شبانا رجالا أم نساء سواء الذين ماتوا على أيدى الفرعون وأتباعه من المصريين أو الذين هلكوا على أيدى هتلر وأتباعه من الشعوب الجرمانية كافة. أنت وغيرك من المسافرين إلى بلاد الفرنجة فى الغرب، أى إلى معظم بلاد أوروبا وأمريكا مقرر عليكم التزام الصمت، تماما كما كان مقررا فى أوروبا النازية والفاشية وفى الصين والاتحاد السوفييتى. وكل مكان أبدعوا فيه لخلق أصنام للتقديس غير جائز انتقادها او الاقتراب منها.

•••


أقلق أشد القلق لما يحدث فى مصر. فجأة اكتشفنا أن هناك من فكر ثم قرر أنه لكى تفقد كلمة الثورة معناها واحترامها وهيبتها وموقعها، يجب كتمان أصوات كثيرة. قالوا لا يجوز إن يعلو صوت الثورة فوق أصوات الميدان ولا يعلو صوتها فوق صوت الدين ولا فوق صوت الشباب ولا صوت الحكمة، ولا يجوز أن يعلو صوتها فوق صوت الاقتصاد أو صوت الأمن. لا يجوز أن يعلو صوتها فوق أى صوت. هكذا فرضوا عليها الصمت.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي