على وقع أعبائها الجسام وهمومها الثقال التى ما برحت تنغص أوضاعها الداخلية وتربك شئونها الخارجية منذ ما ينيف على عقود أربعة مضت، تأبى إيران إلا انتزاع موطئ قدم بالمعترك الليبى عبر مزاحمة الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين المتكالبين على مقدرات ذلك البلد العربى المتوسطى الإفريقى، غير مبالين بتعقيد أزمته ولا مكترثين بإدامة معاناة شعبه.
فعلى رغم التباعد الجغرافى بينهما، وخلو النسيج الإثنى الليبى المتجانس من أقليات شيعية، فى الوقت الذى لم يبرئ الشيعة نظام القذافى من اختطاف الإمام موسى الصدر بليبيا نهاية أغسطس 1978، لم تتورع إيران الخمينية عن مد الجسور مع القذافى منذ مصادرة الملالى للحراك الثورى الإيرانى فى العام التالى مباشرة، مدشنين فصلا أشد فجاجة فى تراجيديا التناقضات التى تعترى السياسة الإيرانية، بشقيها الداخلى والخارجى، سرعان ما طفق الولى الفقيه يجنى ثماره بتلقيه دعما عسكريا قذافيا إبان حرب الثمانى سنوات ضد عراق صدام. ومع اندلاع عاصفة ما أسماه الإعلام الغربى بـ«الربيع العربى» مطلع عام 2011، تدثرت إيران، كشريكها التركى، فى مسعاها لاختراق ليبيا برداء إنسانى إغاثى طبى لمساعدة الليبيين، فى حين شكل نظام الأسد وشيجة لافتة للتقارب بين طهران والقذافى، الذى ما إن هب الشعب الليبى لإسقاطه، حتى انتفض الأسد، حليف إيران الأوّل فى المنطقة، باسطا يده لإنقاذه، عبثا، من هلاك محقق، ما إن وقع حتى هرولت براجماتية الملالى لنسج خيوط التفاهم مع قوات الجيش الوطنى الليبى بقيادة حفتر، الذى مضى بدوره ينسق مع بشار الأسد لاستلهام التجربة السورية فى التصدى للغزو التركى لبلاده.
وبعدما أرجأت الاعتراف بحكومة الوفاق الليبية إلى حين حصولها على ثقة وتأييد البرلمان الليبى، باعتباره الكيان السياسى الوحيد المُنتخب فى البلاد، حسب زعم سفيرها لدى طرابلس عام 2016، أعلنت طهران منتصف يونيو الماضى، مشاطرتها أنقرة نهجها لتسوية الأزمة الليبية، فيما أكد وزير خارجيتها خلال مؤتمر صحفى مشترك مع نظيره التركى بأنقرة، تأييد طهران لحكومة الوفاق الوطنى الليبية، ليستهل الإيرانيون حلقة جديدة فى مسلسل التناقض الاستراتيجى حيال ليبيا من خلال تقديم الدعم العسكرى واللوجيستى لطرفى النزاع هناك.
ففى خرق سافر لقرارى مجلس الأمن 2231 لسنة 2015 والمتعلق بمنع نقل أو تصدير أو تزويد أو بيع أسلحة من إيران إلى جهات أخرى، والقرار 1970 لسنة 2011 والمعنى بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، تورط نظام طهران مع قطر وتركيا فى التحايل على العقوبات الدولية، والالتفاف على حظر الأسلحة الأممى على ليبيا، بالانخراط فى تكليف سفن إيرانية مدرجة على قائمة العقوبات الأمريكية بتنفيذ عمليات الشحن غير القانونى للأسلحة والمرتزقة والميليشيات الإرهابية من تركيا وبلغاريا والسودان إلى ميناء مصراتة، الذى تسيطر عليه حكومة الوفاق بغية دعم الميليشيات الموالية لها، من خلال تزويدها بصواريخ إيرانية الصنع من طراز «إم 302»، ورادارات للإنذار المبكر، يرافقها مستشارون عسكريون إيرانيون لتدريب عناصر المليشيات على استخدامها. بموازاة ذلك، لم تجد طهران أية غضاضة فى إمداد قوات الجيش الوطنى بقيادة حفتر بأسلحة إيرانية الصنع كالذخائر ومضادات الدروع والصواريخ متوسطة المدى والطائرات من دون طيّار، سواء عبر نظام الأسد أو من خلال شركات خاصة خارج إيران، ملتمسة فى مساندته فرصة لتعويم نظام الأسد، وبصيص أمل لتزلف مصر والإمارات.
ولما كانت ليبيا تمتلك احتياطيا نفطيا هو التاسع عالميا والأول إفريقيا، كما تتمتع بأطول حدود بحرية على ساحل المتوسط، فقد باءت إيران بإثم الزحف صوب حواضرها الحيوية توخيا لمآرب شتى. فبداية، لا يزال حلم التموضع الجيوسياسى على ساحل المتوسط يسلب ألباب الإيرانيين منذ زمن، وتوسلا لبلوغه، تجشموا غمار الخوض فى العراق ثم التغلغل بسوريا وصولا إلى لبنان، غير أن قسوة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على طهران فى سوريا والعراق لإنهاء تموضعها الجيواستراتيجى بتواطؤ روسى، وإذعان اضطرارى من قبل الأسد تحت وطأة قانون «قيصر» الهادف إلى تكثيف الضغوط عليه لحمله على قبول بتسوية، تنطلق من بيان جنيف عام 2012، وقرار مجلس الأمن رقم 2254، وتمهد السبيل لتقويض نفوذ إيران وإنهاء وجودها العسكرى فى سوريا، قد أجبر الملالى على التوجه نحو ليبيا بحثا عن ملاذ بديل للتموضع ومنطلقا جديد للتوسع.
ما إن تراءى للإيرانيين فى خصوصية الموقع الجيوسياسى لليبيا منحة جيواستراتيجية ذهبية للانطلاق بامتداد ساحل المتوسط كما العمق الإفريقى، حتى تدافعوا للتغلغل فى ليبيا منذ عام 2011، محاولين استقطاب قادة الميليشيات ودعمهم بالمال والسلاح والمقاتلين من حزب الله وحماس والقاعدة بالتنسيق مع قطر وتركيا، متوسلين استقطاب أمازيغ ليبيا وتغذية نعراتهم الانفصالية عبر الترويج لسيناريو تقسيم ليبيا توطئة لتمكينهم من اقتناص منطقة للحكم ذاتى على ساحل المتوسط بما يحقق حلم طهران فى إقامة إقليم موالٍ لها جنوب المتوسط يخولها التوسع إفريقيا وتشبيك رابط جيوسياسى بين طهران ونقاط تمركزها الاستراتيجى بالشرق الأوسط والقارة السمراء وأمريكا اللاتينية.
مستغلة حالة الفوضى التى تجتاح ليبيا، ترنو طهران إلى إيجاد مستنقع لاقتصاديات الحرب التى احترفوها، بحيث تغدو ليبيا سوقا رائجة للصناعات العسكرية الإيرانية عبر إمداد طرفى النزاع المحليين بالمنظومات التسليحية مقابل النفط، فضلا عن استخدام ليبيا كمحطة جيواستراتيجية لتوجيه شحنات السلاح الإيرانية إلى العديد من ساحات الصراع الملتهبة بالقارة السمراء عبر السفن التى تنطلق من ميناء اللاذقية السورى برعاية الحرس الثورى، لتصل إلى ميناء مصراتة الذى تهيمن عليه حكومة الوفاق، أو ميناء بنغازى الخاضع لإدارة الجيش الوطنى، علاوة على استغلال المسرح الليبى المضطرب لمباشرة الأنشطة التجارية غير المشروعة كعمليات تبييض الأموال وتجارة السلاح والمخدرات، فضلا عن توظيف طهران لخبراتها وصلاتها المشبوهة بسوق النفط السوداء لتهريب النفط الليبى الذى تحصلت عليه حكومة الوفاق من الحقول والمنشآت التى سيطرت عليها وتسويقه لمصلحتها.
كدأبها منذ عقود، شكلت تلك الممارسات والخروقات المريبة أدوات طهران الناجزة لاقتناص تموضع جيواستراتيجى فى ليبيا، وتعزيز نفوذها فى سوريا من خلال ملء الفراغ الأمنى الميليشاوى الناجم عن ضلوع تركيا فى نقل الجماعات الإرهابية الموالية لها فى داعش وجبهة النصرة وغيرها من إدلب إلى ليبيا، بينما سيتسنى لطهران إعادة صوغ تفاهماتها مع أنقرة حول سوريا وليبيا، بما يخول الأتراك والإيرانيين تنسيق جهودهما لبلوغ مآربهما فيما يتصل بتوسيع نفوذهما الإقليمى على حساب نهضة واستقرار الدول العربية ووحدة ترابها الوطنى.
وما كان توفر الفرص أمام طهران لتعزيز دورها فى الأزمة الليبية ليكون منطلقا لتموضع جيواستراتيجى بامتداد المتوسط وأعماق القارة السمراء، خصوصا مع تنامى فرص إعادة إنتاج النموذج السورى فى ليبيا، ليحل دون بروز تحديات عديدة تحاصر تلك التطلعات الإيرانية الطموحة.
فبادىء ذى بدء، برأسه يطل ارتباك الجبهة الداخلية الإيرانية على وقع اشتداد وطأة الأزمات والضغوط التى تثقل كاهل نظام الملالى، بدءًا بالأزمة الاقتصادية والعزلة الدبلوماسية والعقوبات الدولية، مرورا بتراجع النفوذ الإقليمى على خلفية محاصرة المجتمع الدولى لوكلاء إيران عالميا وتقويض أذرعها العسكرية إقليميا، بالتزامن مع تفاقم الاضطرابات الداخلية جراء تعاظم الاستياء الشعبى من إخفاقات نظام الملالى، الذى أنهكه صراع الأجنحة والجبهات المتفشى فى جنباته، وصولا إلى تداعيات جائحة كورونا، التى فاقمت معاناة الشعب وضاعفت محنة النظام.
ويبرز ثانيا، تضاؤل المساحة الممكنة لحرية الحركة الإيرانية فى ليبيا وشمال إفريقيا، مع تفشى مشاعر الحذر والتوجس من أى دور إيرانى يفتقد للترحيب المحلى أو التقبل الإقليمى والدولى. فبالتزامن مع فشل مبادرات سياسية لسفير طهران لدى ليبيا، بالتنسيق مع روسيا، تمخض دعم إيران لميليشيات بشمال إفريقيا عن قطع علاقاتها مع المغرب بعدما اتهمها بتسليح «جبهة البوليساريو» الانفصالية، بينما انطلقت فى الجزائر وتونس حملات لتقويض مخططات تشييع إيرانية مشبوهة. أما واشنطن وحلفاؤها، فقد آلوا على أنفسهم إجهاض التدخل الإيرانى فى ليبيا، حتى لا يفضى إلى كسر الحصار المفروض على طهران وتقويض استراتيجية الضغوط القصوى الأمريكية تجاهها، ومن ثم جاء تأكيد المبعوث الأمريكى الخاص بشأن إيران برايان هوك قبل نهاية الشهر المنقضى، على ضرورة تمديد حظر الأسلحة الأممى على إيران، والذى سينتهى فى أكتوبر المقبل بموجب الاتفاق النووى لعام 2015، حتى لا يتمكن الملالى من تطوير ترسانتهم العسكرية وتوريد الأسلحة لوكلائهم وأذرعهم العسكرية كما الأنظمة المارقة والتنظيمات الإرهابية الظلامية حول العالم، بما يفاقم أعمال العنف بالمنطقة ويهدد الأمن والسلم الدوليين.
ويحل ثالثا: تعاظم مخاوف إيران من تكرار السيناريو التركى معها، بحيث يفضى تدخلها فى ليبيا إلى الإضرار بعلاقاتها القلقة مع الأوروبيين المنخرطين بشكل مكثف ولأسباب تمس أمنهم القومى مباشرة، فى الأزمة الليبية، مخافة تحول ليبيا إلى بؤرة لإرهاب يهدد أمن أوروبا واستقرارها ومعبر لموجات لجوء وهجرة غير نظامية تقض مضاجعها. فلطالما راهنت طهران على استرضاء الأوربيين بغية توظيف مرونتهم إزاءها لتقليص تداعيات الضغوط الأمريكية المتنامية عليها، مؤملة ألا يحذوا حذو واشنطن ويستجيبوا لمطلبها باعتماد التصنيف الإرهابى للذراع السياسى لحزب الله وحظر أنشطته بالقارة العجوز، وأن يبقوا على تمسكهم بالفصل بين الجناحين العسكرى والسياسى للحزب، من خلال قرارهم الصادر فى يوليو ٢٠١٣ بتصنيف جناحه العسكرى فقط «منظمة إرهابية».
وأخيرا، يأتى تضارب السياسات الإيرانية حيال ليبيا ما بين المضى قدما فى مساندة حكومة الوفاق المدعومة من قبل أنقرة، والإصرار بالتوازى على استبقاء قنوات التواصل مع الجيش الوطنى المناهض لتحالف إردوغان والسراج، الأمر الذى من شأنه تعرية المآرب المضمرة للتدخلات الإيرانية فى ليبيا، وتهديد استمرارية التنسيق بين طهران وأنقرة هناك، كما يلقى بظلال من الغيوم على مآلات مخططاتهما الشيطانية لاستغلال عواصف الفوضى والاضطراب التى تغشى بعض الدول العربية، بغية استباحة مقدراتها والعبث بأمنها وسيادتها، توطئة لتوزيع النفوذ وتقاسم الغنائم، وتوسلا لاستعادة أمجاد زائفة لإمبراطوريات بائدة، مستغلين استثمار أنقرة لعضويتها فى الناتو ومباركة واشنطن الوظيفية والمرحلية لعربدتها وخروقاتها فى المنطقة من جهة، إضافة إلى خبرة الإيرانيين فى إذكاء النعرات الإثنية والانفصالية، وتفننهم فى التحايل على العقوبات الدولية، وبراعتهم فى انتهاك الحظر الأممى على تصدير السلاح والمرتزقة إلى بؤر التوتر، من جهة أخرى.