تناول د. طارق فهمى، على صفحات «الشروق» ـ موضوعا إشكاليا مهما، عن التطبيع مع إسرائيل. وقد حمله البعض أكثر مما يحتمل، معتبرا إياه ممثلا لرأى دوائر عليا فى القيادة السياسية المصرية بدرجة أو أخرى، وهو تقدير ــ على الأرجح غير دقيق وربما ينم عن نوع من «لى عنق» الحقيقة سعيا إلى الوصول لأغراض سياسية من هذا النوع أو ذاك.
وفى مقاربتنا لموضوع المقال محل التعليق، فإننا نجده قد ابتعد عن مساوقة المسار الرئيسى للعلاقات الدولية فى الحقبة الراهنة من تطور النظام العالمى، خاصة من وجهة نظر الأدبيات المعاصرة للدوائر الأكاديمية الأوروبية.
فلقد أصبح من المقبول على نطاق واسع، أن علم السياسة بصفة عامة، و«العلاقات الدولية» بصفة خاصة، ليس خاليا من القيم value – free، كما كانت ترى المدرسة الوضعية، وإنما هو – على العكس – مشبع بالتوجهات القيمية، من مشارب مختلفة، برغم عدم الاعتراف بذلك فى معظم الأحايين. وبغض النظر عما يمكن أن يساق من نقد مستحق للدوافع الكامنة وراء دعوات الأكاديميا الغربية لإعادة النظر فى «نظرية العلاقات الدولية» خلال مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وفى ظل انزواء الفكرة الاشتراكية؛ فإن من المهم أن نشير إلى عدة حقائق أساسية، من وجهة نظرنا. أولى هذه الحقائق أن الأبعاد السوسيولوجية والإيديولوجية، أصبحت ظاهرة ظهورا قويا فى إدارة العلاقات بين الدول والأمم، وأن الجانب المدعو بالأخلاقى أصبحت له أولوية ملحوظة على سلم القيم الدافعة للسياسات الخارجية، ولو بصفة جزئية أو نسبية.
وهكذا، وبالإضافة إلى الاعتبارات العقائدية والقومية التى تدفع ــ عن حق جماعات عريضة من المثقفين العرب لمقاومة التطبيع مع إسرائيل، فإنه يجب النظر إلى إسرائيل، وجودا وسياسات، من وجهة نظر التوجهات السائدة فى العلاقات الدولية والإقليمية.
فإسرائيل قائمة –كما هو معروف على المذهب الصهيونى القائل باعتبار فلسطين وطنا لليهود حصرا، دونا عن العرب أصحاب الأرض على مدى القرون؛ ومن أجل ذلك جرى «اختلاق إسرائيل القديمة» وأعيدت كتابة التاريخ لديهم، من وجهة نظر «اليهودية السياسية» لمحاولة تأكيد ذلك. وفضلا عما جرى على مدى القرن العشرين لتحقيق هذه الرؤية المجافية للتاريخ الحقيقى، والمعادية لأى مبدأ أخلاقى فى العلاقات بين الشعوب والأمم، فقد تم اتخاذ العمل العسكرى الهجومى وسيلة وحيدة تقريبا لتجسيد الرؤية المذكورة.
وقد تجلى ذلك بالفعل منذ قيام الحرب العالمية الأولى وخاصة منذ «وعد بلفور» فى 2 نوفمبر 1917 حتى الآن، عبر الاستيطان الصهيونى تحت حماية قوات الانتداب البريطانى على فلسطين، وإسقاط قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، وممارسة «العدوان» بالحرب الشاملة حتى إعلان قيام إسرائيل على معظم أرض فلسطين فى 15 مايو 1948. تلا ذلك القيام بسلاسل من أعمال العدوان غير المنتهية، مع الإشارة بصفة خاصة إلى الهجمات على غزة عام 1955، والمشاركة فى «العدوان الثلاثى» على مصر 1956، والقيام بعدوان الخامس من يونيو 1967، عدا عن السعى إلى امتلاك السلاح النووى كأداة ردعية غير تقليدية للتدمير الشامل. وبعد حرب أكتوبر1973 تمت مواصلة النهج العدوانى المسلح بخرق توازن القوى العسكرى مع العرب، وخاصة مع مصر، برغم «معاهدة السلام»، وشن عدوانات متتالية على لبنان آخرها عدوان 2006، عدا عن سلسلة العدوان على غزة فى 2009 و2012، و2015. والمذهل أن يتم كل ذلك فى ضوء إعلان متكرر عن تحويل إسرائيل إلى «دولة يهودية خالصة» – دولة للشعب اليهودى – مما ينسف أية إمكانية واقعية لما يسمى بحل الدولتين، ولما يسمى بمشروع «الدولة الواحدة ثنائية القومية».
***
إن مجرد استفادة إسرائيل القصوى من تداعيات أحداث ما سمى غربيا بالربيع العربى منذ 2011، وسعيها إلى «التعملق» فى فضاء عربى «فارغ» إلى حد بعيد، لا يبرر أخلاقيا أى مسعى مصرى –على صعيد النخبةــ لإحداث تقارب مصطنع مع إسرائيل قفزا فوق الاعتبارات الأخلاقية والعقائدية، بل فوق اعتبارات المصلحة المصرية نفسها فى الأجلين المتوسط والطويل.
ولقد سعت السياسة المصرية خلال العامين الأخيرين، بشكل براجماتى مفهوم، إلى تهدئة التوتر مع إسرائيل لمواجهة بؤرة الإرهاب فى شمال سيناء، وإن كان ذلك قد أدى، للأسف الشديد، فى أحد نواتجه الفرعية، إلى آثار سلبية وخيمة على أهلنا فى قطاع غزة. ولكن ذلك لا يعنى تحويل التهدئة «البراجماتية» الموقوتة إلى نوع من فتح الأبواب على مصاريعها مع «الكيان الصهيونى» بما يتعارض جذريا مع منطق مسيرة الشعب المصرى الظافرة خلال العقود الأخيرة لرفض ذلك اللون من التطبيع الإسرائيلى المنافى لمنطق التاريخ الإنسانى. ولقد كان نضال شعبنا لمقاومة التطبيع أحد أبرز معالم الملحمة الوطنية الكبرى منذ مطلع الثمانينيات حتى الآن، مما يعد واحدا من أهم مكاسب الحركة الوطنية المصرية.
تأسيسا على ما سبق، فإن دعوة البعض إلى ما يمكن اعتباره توسعا مبرمجا لمساحة التطبيع مع إسرائيل، حتى مع ربطه بلاغيا بمسار إقامة دولة فلسطينية، تعتبر التواء غير مبرر فى الضوابط الأخلاقية الصارمة للموقف تجاه إسرائيل. فهذه كانت ولم تزل تعتبر – فى العرف السياسى ــ دولة عنصرية، بحكم كونها دولة حصرية لليهود كجماعة أنثروبولوجية مدعاة ذات انتماء دينى، «دولة صهيونية» باختصار.
ولكن هل يعنى ذلك دعوة الدولة المصرية إلى إيقاف المسار الرسمى للعلاقات بينها وبين إسرائيل فى الوقت الراهن؟ كلا. فما يزال من المهم أن تراعى اعتبارات (معاهدة السلام) دون افتئات على مراكزنا الوطنية والقومية، وذلك حتى تتهيأ الظروف لتعديلها ثم لتجاوزها فى وقت لاحق، حينما تسمح بذلك موازين القوة التبادلية.
ويصح فى ميزان التاريخ أن تبقى مصر الرسمية على سلامها «البارد» مع إسرائيل ما دامت «صهيونيةــ عنصرية» وأن تحافظ مصر الشعبية على تماسكها القوى المقاوم لأى تطبيع.
إن ذلك الموقف هو المتفق مع التوجه الراهن للعلاقات الدولية التى تقيم من خلالها الدول علاقاتها الخارجية وفق مبادئ تعتنقها وربما تدعيها من قبيل الديمقراطية و«حقوق الإنسان»، كما أن ذلك الموقف يتفق – من قبل ومن بعد – مع حقيقة الانتماء المصرى للأمة العربية على صعيد الهوية، كرابطة عضوية وثيقة مع الشعب الفلسطينى، ويتفق من ثم مع حقائق المصلحة المصرية فى أفق المستقبل المرتجى.
وإن أية محاولة للسير عكس هذا التيار، ستكون مجافية تماما للمبدأ الأخلاقى القويم.