نشطت التحركات الإقليمية والأوروبية فى الفترة الأخيرة للعمل من أجل إعادة العلاقات مع سوريا من خلال البدء باتصالات مكثفة على مستويات أمنية وسياسية لإرساء أسس جديدة مقبولة لكل من الأطراف الإقليمية والأوروبية وللنظام السورى من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء وما يتبع ذلك من البدء تدريجيا فى التطرق إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية، والتمهيد المتأنى لبحث إمكانية مشاركة هذه الدول فى تخفيف الصعوبات المعيشية اليومية التى يعانى منها الشعب السورى فى كل المجالات، ومساعدتهم على الاستمرار فى بلدهم وعدم الهجرة إلى دول أخرى. وذلك على ضوء مراوحة الأوضاع فى سوريا مكانها وصمود النظام وامتداد سيطرته على معظم الأراضى السورية، وتراجع أو عدم تطور موقف المعارضة فى الداخل والخارج.
وتعد تركيا فى مقدمة الدول الساعية بقوة نحو إعادة علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والتعاون الأمنى مع سوريا. وهو ما يمثل تحولاً كبيرًا فى موقف تركيا من النظام السورى على مدى نحو 13 عامًا من المقاطعة، وتقديم تركيا كل أنواع المساعدات العسكرية واللوجستية للمنظمات والجماعات المسلحة التى تحارب النظام السورى لإسقاطه، بالتعاون مع أطراف إقليمية أخرى. وكانت تركيا تشترى البترول السورى الذى استولت عليه المنظمات الإرهابية، وتعالج المصابين منهم فى المستشفيات التركية. واعتقدت أنقرة أنه يمكن إسقاط النظام السورى، دون أن تأخذ فى الاعتبار قوة الالتزام الروسى والإيرانى بالدفاع وحماية النظام السورى.
• • •
وقد تغير الموقف التركى منذ عام 2022 وبدأت تنهال التصريحات من الرئيس أردوغان، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع، ورجال الأمن الأتراك قبل إجراء الانتخابات الرئاسية التركية فى شهر مايو 2023، وبعدها أصبحت أكثر كثافة خلال عام 2024 خاصة فى شهر يوليو 2024. وتواترت التصريحات التركية على مدى فترة طويلة عن ضرورة وأهمية الإعداد لقمة بين الرئيس أردوغان والرئيس السورى بشار الأسد، ولكن دون الاتفاق على تحديد موعد لهذه القمة، رغم الحديث عن مكان عقد الاجتماع، وهل يكون فى أنقرة أم فى موسكو، أو فى مكان على الحدود السورية التركية. وتوالت عدة اجتماعات بين جهازى المخابرات التركى والسورى للتباحث فى القضايا الأمنية، وتوضيح أنه عند الانتقال إلى الملفات السياسية فمن المنتظر عقد اجتماعات على مستوى وزيرى الخارجية فى البلدين، ثم يقدم الإطار المتفق عليه من قبل وزارات الخارجية والدفاع إلى القمة. وسبق أن كلف الرئيس أردوغان وزير خارجيته هاكان فيدان بعمل خريطة طريق للقاء القمة بينه والرئيس الأسد. وأشارت الخارجية التركية إلى احتمال عقد القمة التركية السورية فى موسكو بدعوة من الرئيس بوتين، ربما خلال شهر أغسطس 2024، بينما رجحت مصادر روسية انعقاد القمة قبل نهاية عام 2024.
إن وراء السعى التركى الملح لإعادة العلاقات مع سوريا عدة عوامل بالغة الأهمية بالنسبة لها، أولها مشكلة اللاجئين السوريين الموجودين على الأراضى التركية والذين يقدر عددهم بنحو 3,5 مليون لاجئ. ورغم المساعدات المالية الكبيرة التى يقدمها الاتحاد الأوروبى لتركيا لإعاشة اللاجئين ومنعهم من الاتجاه إلى الدول الأوروبية، فقد ظهرت مشكلات أخرى منها عدم تقبل الأتراك وجود اللاجئين السوريين بكثافة بينهم لأنهم يغيرون التركيبة السكانية، وينافسون فى سوق العمل بأجور ضعيفة، وفى كثير من الأعمال الصغيرة والمتوسطة التى تهدد مثيلاتها التركية، وكثرة الاحتكاك والعنف مع هؤلاء اللاجئين. وتطلب تركيا العودة الآمنة لهم إلى موطنهم فى سوريا، بعد أن توقف مشروع توطينهم فى الأراضى السورية التى تسيطر عليها القوات التركية. وسوريا لا تقبل فرض شروط عليها لعودة مواطنيها وتحتفظ بحقوقها فى المراجعة الأمنية. ورغم اتفاق كل من أنقرة ودمشق على عدم منح الأكراد السوريين حكمًا ذاتيًا أو استقلالاً، ولكن سوريا لا تقبل التدخل فى شئونها باعتبار أن الأكراد السوريين مواطنون لهم كل الحقوق وعليهم واجبات تجاه وطنهم سوريا. لكن أنقرة تعتبر أن هذا الموضوع يرتبط بأمنها وما تسميه مكافحة الإرهاب وتربط بين القوات السورية الديمقراطية (قسد) وبين حزب العمال الكردستانى التركى الذى تصنفه منظمة إرهابية.
أما سوريا فإنها تتمسك بضرورة الاتفاق بينها وتركيا على جدول محدد لانسحاب القوات التركية من شمال سوريا باعتبارها قوات احتلال، وأنه يتعين التوصل إلى اتفاق قبل انعقاد قمة سورية تركية، كما تشترط أن تكف أنقرة تمامًا عن تقديم أى مساعدات للمنظمات الإرهابية والجماعات المسلحة التى تعمل ضد النظام السورى. وسبق أن أبدت دمشق استعدادها لإحياء اتفاق أضنة الموقع بينها وأنقرة فى عام 1998، والذى يسمح بالمطاردة الساخنة لكلا الطرفين داخل أراضى الطرف الآخر لتتبع الجماعات الإرهابية.
• • •
وتبدى روسيا اهتمامًا كبيرًا بالوساطة بين سوريا وتركيا، وذلك بحكم علاقتها الوثيقة مع دمشق، والتعاون القائم مع أنقرة التى تضطلع بدور معين فى التهدئة فى القضايا الاقتصادية والتجارية المتأثرة بالحرب الروسية الأوكرانية. وقد قام الرئيس بشار الأسد بزيارة مفاجئة إلى موسكو فى 24 يوليو 2024، حيث التقى مع الرئيس بوتين، وبحثا التعاون المشترك بين البلدين فى كل المجالات العسكرية والاقتصادية والتجارية، والتطورات فى منطقة الشرق الأوسط خاصة الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها على سوريا ولبنان واليمن. وذكرت مصادر روسية أن ملف العلاقات السورية التركية كان محورًا أساسيًا فى المحادثات، وأن الرئيس بوتين شدد على ضرورة الدفع بجهود الحوار بين دمشق وأنقرة، وتهيئة الظروف باتجاه عقد لقاء بين الرئيسين أردوغان والأسد، وأن الرئيس الأسد كان إيجابيًا ولكن طالما تلقت موسكو ردودًا إيجابية سابقة لم تترجم عمليًا على أرض الواقع. وقد أبدى الرئيس الأسد اهتمامًا كبيرًا بأن ترتقى العلاقات الاقتصادية والتجارية مع روسيا إلى مستوى العلاقات السياسية والعسكرية بينهما. وأن مبعث اهتمام روسيا بعودة العلاقات التركية والسورية رغبتها فى تحقيق إنجاز سياسى مهم فى الشرق الأوسط يساهم فى تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية السورية، ويمثل خطوة أولية على طريق تسوية الأزمة السياسية السورية، ويساعد على مزيد من التعاون الاقتصادى والتجارى بين موسكو وأنقرة فى ظل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
وجاء إعلان وزير خارجية إيطاليا فى 26 يوليو 2024 بتعيين سفير فى دمشق، هو المبعوث الإيطالى إلى الأزمة السورية ستيفانو رافاجدان، وأنه سيمارس مهمته فى دمشق قريبًا، لتكون أول دولة من الدول الصناعية السبع تعيد سفيرها وتفتح سفارتها بعد أن كانت سحبت كل أعضاء السفارة الإيطالية فى عام 2012 نتيجة ما قالت عنه أنه استخدام غير مبرر للقوة من قبل النظام السورى ضد المتظاهرين.
كما وقعت إيطاليا مع سبع دول أخرى أعضاء فى الاتحاد الأوروبى، هى النمسا، وقبرص، وجمهورية التشيك، واليونان، وكرواتيا، وسلوفينيا، وسلوفاكيا، رسالة إلى مسئول السياسة الخارجية والأمنية فى الاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل، تطالبه بأن يقوم الاتحاد بدور بشأن الأوضاع فى سوريا التى تزداد تدهورًا، وبلوغ الوضع الاقتصادى حالة متدنية للغاية. وقد كلف بوريل إدارته بدراسة ما يمكن القيام به تجاه الأوضاع فى سوريا.
ويوجد فى دمشق سفارات لست دول فى الاتحاد الأوروبى حاليًا هى رومانيا، وبلغاريا، واليونان، وقبرص، وجمهورية التشيك، والمجر. ويلاحظ أن ثلاثة من هذه الدول شاركت إيطاليا فى توقيع الرسالة إلى الاتحاد الأوروبى.
لا شك أن التوسع فى إعادة الدول المختلفة فتح سفاراتها على مستوى السفراء فى دمشق يمثل أهمية كبيرة فى تخفيف الضغوط بكل أنواعها عن النظام والشعب السورى، وتجاوز العقوبات المفروضة عليهم، أو على الأقل تضييق نطاق هذه العقوبات إلى الحد الأدنى. كما أنه يساهم إيجابيًا فى تشجيع الأطراف السورية المتصارعة على الاتجاه نحو المصالحة ومساعدة المبعوث الأممى لسوريا على إحراز تقدم ملموس فى التوصل إلى اتفاق قابل للتنفيذ بشأن المرحلة الانتقالية والتسوية النهائية وعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى ديارهم، وعملية إعادة الإعمار، كما تمثل ضغطًا على واشنطن التى لا تساهم إيجابيًا حتى الآن فى جهود الأمم المتحدة لتسوية الأزمة السورية، بل أنها تدعم بالسلاح والتدريب، عن طريق قواتها التى تحتل جزءًا من سوريا، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التى يمثل الأكراد عنصرًا رئيسيًا وفعالاً فيها. ويعتبر النظام السورى أن القوات الأمريكية قوات احتلال يجب أن ترحل.