فى 9 يونيو 2006 انطلقت مباريات كأس العالم لكرة القدم فى ألمانيا بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسبانيا. لم تكن أرض العراق قد تشربت بعد دماء مئات آلاف الأبرياء الذين قتلتهم أمريكا وبريطانيا وإسبانيا خلال ثلاث سنوات من غزو العراق عام 2003. كان ملايين آخرين من الشعب العراقى يعيشون لاجئين فى ظروف لا إنسانية، بعد أن دمر الغزاة البنية التحتية العراقية، وأعادوا بلدهم العريق إلى عصور الظلام. كان العالم كله قد عرف جرائم الحرب التى ارتكبتها القوات الأمريكية والبريطانية والإسبانية فى العراق، وكانت صور التعذيب فى سجن أبو غريب متداولة فى جميع أنحاء العالم، والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبها الغزاة موثقة ومعروفة للجميع، وبات واضحًا أن الحرب شُنت على أساس من الأكاذيب. ومع ذلك لم يخرج صوت واحد ينادى باستبعاد أمريكا وبريطانيا وإسبانيا من المشاركة فى بطولة كأس العالم. لم يرفع الأوروبيون لافتات تطالب بمقاطعة المونديال لأنه يستضيف ثلاث دول كانت ترتكب واحدة من أكثر المذابح الإنسانية بشاعة أثناء الاستعداد لاستضافة فرقها والاحتفاء بها فى بطولة كأس العالم. ولم تقرر الفيفا استبعاد أى من هذه الدول لأنها مجرمة حرب!
لم يكن هذا الصمت التام عن مذابح أمريكا وبريطانيا وإسبانيا فى العراق غريبًا. فقبل ذلك بثمانية أعوام كانت فرنسا تستضيف بطولة كأس العالم لعام 1998. فى وقت متزامن لاستعدادها لتنظيم البطولة كان دور فرنسا فى مذابح التطهير العرقى فى رواندا عام 1994 أصبح معروفًا. 800 ألف إنسان قتلوا فى جريمة ضد الإنسانية ارتكبتها فرنسا بالتعاون مع قبيلة الهوتو فى رواندا. ثمانمائة ألف إنسان لم يهتز لهم جفن أى مشارك فى بطولة كأس العالم فى فرنسا التى عُقدت بعد أقل من أربع سنوات من المذبحة! لم يدعُ أحد لمقاطعة كأس العالم لأن من تنظمه دولة ارتكبت جرائم حرب قبل أقل من أربع سنوات من استضافة البطولة. ولم يكن هذا الصمتُ أيضًا غريبًا.
فى عام 1970 شاركت إسرائيل فى بطولة كأس العالم فى المكسيك. قبل ذلك بأقل من ثلاث سنوات كانت إسرائيل قد احتلت أجزاء شاسعة من أربع دول عربية، وطردت الفلسطينيين والفلسطينيات من القدس، وارتكبت جرائم حرب فى حق الأسرى، بما فيها حرقهم أحياء. لم يرتفع صوت واحد يدعو إلى استبعاد دولة الاحتلال الإسرائيلى من البطولة لأنها هاجمت جيرانها، واحتلت أراضيهم، وارتكبت جرائم حرب ضد أسراهم. لم يرفع أحد لافتة تندد بالاحتلال، وتنادى بعودة الأرض إلى أهلها، وكأن ما حدث جرى فى كوكب آخر.
كيف نفسر هذا الصمت المخزى للفيفا والأندية والحكومات الغربية تجاه دول شاركت فى كأس العالم، ونظمته على الرغم من أنها ارتكبت قبيل المشاركة أو أثناء التنظيم جرائم حرب مثبتة بشكل لا جدل فيه؟ ولماذا عاقبتْ هؤلاء الذين حاولوا فضح الجرائم ضد الإنسانية فى الملاعب من لاعبين أو أندية، مثلما حدث مع أحد اللاعبين المصريين حين ارتدى فانلة رياضية مكتوبا عليها «تعاطفًا مع غزة» أثناء دفاعها عن نفسها ضد بطش جيش الاحتلال الإسرائيلى عام 2008، فى حين أشادت بارتداء فرق بأكملها لشعارات مساندة لأوكرانيا فى دفاعها عن نفسها ضد بطش جيش الاحتلال الروسى عام 2022؟.
ولماذا استبعدت الفريق الروسى من تصفيات كأس العالم 2022، ولم تستبعد بريطانيا أو أمريكا أو فرنسا أو إسبانيا بسبب جرائم حرب لا تقارَن بما ارتكبته روسيا فى أوكرانيا حتى الآن؟ ولماذا لم يناد صوت واحد بمقاطعة كأس العالم فى فرنسا أو أمريكا أو بريطانيا بعد أن قتلوا مئات الآلاف من العزل الأبرياء، وشردوا الملايين؟.
أى منطق أخلاقى يحكم الغرب فى هذا الزمان؟! وما سر هذه التناقضات المخزية فى الأخلاق؟!
معضلة الأخلاق النفعية
لا يحتاج المتابع للسياسات الغربية بشأن العالم إلى جهد كبير لاكتشاف أن ما يحكم الغرب هو منطق الأخلاق النفعية. فى الأخلاق النفعية يتحدد ما هو خير أو شر وفقًا للمصلحة لا المبدأ. فالخير هو ما يحقق المنفعة والمصلحة، والشر هو ما يتعارض مع المنفعة والمصلحة. وبناءً على ذلك فإن الفعل الواحد يصبح خيِّرًا فى موقف ما، وشريرًا فى موقف آخر. على نحو ما رأينا فى موقف دعم القوى الخاضعة للاحتلال العسكرى. فدعم فلسطين فى كفاحها للتحرر من الاحتلال الإسرائيلى يُصوَّر على أنه فعل غير أخلاقى يجب أن يُعاقب مرتكبوه، فى حين أن دعم أوكرانيا فى كفاحها للتحرر من الاحتلال الروسى يُصوَّر على أنه فعل أخلاقى يجب أن يُثاب فاعلوه. الفعل واحد، لكن التوصيف الأخلاقى له مختلف باختلاف المصلحة. فدول الغرب تدعم الاحتلال الإسرائيلى لأنه يُمكِّنها من مواصلة استنزاف ثروات العالم العربى، وفرض الهيمنة عليه، فتُسمى من يقاومون هذا الاحتلال «إرهابيين»، وتُعاقب من يتعاطف معهم. وفى المقابل تدعم دول الغرب أوكرانيا فى سبيل كسر شوكة روسيا العسكرية، فيسمون من يقاومون الاحتلال الروسى أبطالا وطنيين، ويشيدون بمن يتعاطف معهم.
لإعطاء مثال واضح عن الأخلاق النفعية يكفى أن نشير إلى تسمية (محور الشر). فقد أطلقت أمريكا هذه التسمية على دول ثلاثة من بينها العراق، تمهيدًا لغزوه عام 2003. وصفت أمريكا العراق بأنه محور من محاور الشر على الرغم من أن العراق لم يقم بأى اعتداء مسلح ضد أمريكا. أما من غزا العراق، ودمر بنيته التحتية، وشرد أهله، وقتل أكثر من 2% من سكانه فهى أمريكا نفسها، التى أطلقت على نفسها حامية الخير والحرية والسلام والأمن العالمى ضد الأشرار!
تشكل الأخلاق النفعية الغربية خطرًا حقيقيًا على الأخلاق الإنسانية، لأنها تحول الأخلاق من مبادئ إنسانية إلى حسابات مصالح قبل كل شىء، فتضيع الحقيقة، وتذوب معانى الكلمات. وتتحول إلى مجرد ألفاظ جوفاء. ومن يدفع الثمن غالبًا هم بقية دول العالم التى تتعرض للإبادة والاحتلال والابتزاز تحت ستار من الأكاذيب.