يبنى البشر تواصلهم على مبدأ أساسى بسيط هو الاتفاق المشترك على معنى الكلمات. إذا طلب شخص من آخر أن يعطيه كتابا فإنه يتوقع ألا يعطيه كراسة أو نوتة أو جريدة. فالمتحدث والمخاطب يتفقان على معنى كلمة كتاب، ويتفاهمان ويتواصلان فيما بينهما استنادا إلى هذا الاتفاق. وكلما زادت مساحة الاتفاق على دلالات الكلمات قلت احتمالات اللبس وسوء الفهم، والعكس صحيح. لكن قد يقوم بعض البشر بتشويه دلالة الكلمات لتحقيق غموض متعمد لإرباك الفهم والسيطرة على إدراك الواقع. وتصل محاولة تشويه دلالة الكلمات والتلاعب بها حد تدمير معانيها، على نحو ما يظهر بوضوح فى الخطاب السياسى الغربى الخاص بمعركة طوفان الأقصى فى فلسطين. أخصص هذا المقال للتعريف بظاهرة تدمير الكلمات، متخذا من تعبير «معاداة السامية»، مثالا على مخاطر هذه الظاهرة، وبيان أثرها على مستقبل التواصل بين الشعوب والجماعات.
نشأة «معاداة السامية» وفقا للموسوعة البريطانية، ظهر تعبير «معاداة السامية» فى ألمانيا على يد فيلهلم مار عام 1879. وقد عانى اليهود من أشكال من التمييز والعنصرية والاضطهاد فى معظم البلدان الغربية، لا سيما خلال القرن التاسع عشر، وكانت نشأة التعبير مظهرا من مظاهر هذا العداء. سرعان ما تغيرت ظروف الاستعمال؛ ليحمل دلالة أخلاقية إيجابية. وحتى منتصف القرن العشرين استعمل تعبير «معاداة السامية» ليصف الخطاب أو الأفعال التى تمارس تمييزا أو عنصرية أو اضطهادا أو كراهية تجاه اليهود بوصفهم جماعة دينية أو عرقية أو تجاه اليهودية بوصفها ديانة. وفق هذا المفهوم فإن «معاداة السامية» فعل مرفوض قطعا، وتجب مواجهته، وتجريمه، وتهيئة كل الظروف للحيلولة دون حدوثه. وبهذا المعنى يكون تعبير «معاداة السامية» ضروريا لمواجهة الكراهية والعنصرية تماما مثلما هو الحال مع تعبيرات أخرى لا تقل أهمية وإن لم تحظَ بالتقدير نفسه مثل معاداة الإسلام، ومعاداة الأجانب، ومعاداة السود، وغيرها. فالبشر متساوون، وأى تحقير أو اضطهاد أو تمييز أو كراهية أو عنصرية موجهة إلى شخص استنادا إلى دينه أو نوعه أو عرقه أو لونه أو جنسيته يجب أن يجرم ويقاوم بكل السبل الممكنة.
ظل تعبير «معاداة السامية» محتفظا بدلالته السابقة حتى إعلان المجموعات اليهودية المقاتلة فى فلسطين تأسيس إسرائيل عام 1984. بعدها حاول الساسة الإسرائيليون توظيف تعبير «معاداة السامية» للحيلولة دون أى انتقاد موجه لسياساتهم أو قراراتهم أو أفعالهم فى فلسطين. رويدا رويدا تحول إلى أداة سياسية لا علاقة لها بالمعنى الإيجابى الأصلى للعبارة. فإذا انتقد سياسى فى دولة ما توسيع إسرائيل مستوطناتها على الأراضى المحتلة بعد عام 1967 اتهمته إسرائيل وحلفاؤها بمعاداة السامية، وإذا أبدى كاتب أو فنان تعاطفا مع آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين تقتلهم إسرائيل فى غزة والضفة الغربية المحتلة اتهمته الدوائر الإسرائيلية ومن يحالفها بمعاداة السامية، وإذا دعا شخص إلى تمكين الفلسطينيين من حقهم فى إنشاء دولتهم وفقا لقرارات الأمم المتحدة تعلق له المشانق لأنه «معادٍ للسامية»، ولدينا حرفيا آلاف الحالات خلال العقود الستة الماضية، استعمل فيها تعبير «معاداة السامية» لفرض قيود هائلة على أى مساءلة أو معارضة للسياسات الإسرائيلية، فى سابقة لم يعرفها العالم طوال تاريخه بأى شكل مشابه مطلقا.
• • •
لتوضيح خطورة تحول تعبير «معاداة السامية» إلى أداة للحيلولة دون نقد أية جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية يقوم بها الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين سأضرب مثالا واحدا جرى منذ أسبوع فقط. ففى 10/10/2023 صرحت رئيسة وزراء فرنسا إليزابيث بورن بأن فرنسا لن تتسامح «مع أى عمل أو تصريح معادٍ للسامية» على أراضيها. وهذا أمر رائع فعلا لو أنها تقصد معاداة اليهودية بوصفها ديانة أو اليهود بوصفهم عرقا أو أصحاب ديانة. لكن الحكومة الفرنسية صنفت أية مظاهرة داعمة للشعب الفلسطينى على أنها عمل معادٍ للسامية، وحظرت المظاهرات التى أراد جزء من الشعب الفرنسى القيام بها للاحتجاج على الإبادة الجماعية التى يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلى فى غزة، والتى أسفرت ــ حتى كتابة هذا المقال صباح 15 أكتوبر ــ عن مقتل 2215 فلسطينيا منهم 700 طفل، علاوة على جرح 8704 أفراد!
وفق هذا المفهوم الملتوى لمعاداة السامية أصبح الاحتجاج على الإبادة الجماعية للفلسطينيين عملا عنصريا ضد اليهود! وأصبح على جميع الشعوب والمؤسسات والدول الصمت التام، وهم يرون عملية إبادة جماعية تجرى ضد بشر أبرياء فى بلد محتل، وإلا اتهموا «بمعاداة السامية»، وتعرضوا لأفعال انتقامية نتيجة هذا الاتهام. وتصريح رئيسة وزراء فرنسا ليس إلا حالة من مئات الحالات خلال الأسبوع الماضى وحده، استعمل فيها ساسة غربيون وصحفيون ورجال أعمال ومؤثرون اجتماعيون تعبير «معاداة السامية» ليشمل أى نقد لجرائم الحرب والإبادة الجماعية والفصل العنصرى والكراهية التى يقوم بها جيش الاحتلال فى فلسطين.
• • •
لقد دمر التوظيف السياسى الخاطئ لتعبير «معاداة السامية» دلالته. وتشوه المعنى الإيجابى النبيل الذى كان يحمله قبل أن يستغله الاحتلال أبشع استغلال لفرض الصمت على جرائم تصنفها المنظمات الدولية على أنها جرائم ضد الإنسانية. وبفعل إفراغ التعبير من مضمونه، وتحميله بمضامين تجعله معاديا للإنسانية والقانون الدولى وحرية التعبير فقد أساسه الأخلاقى والإنسانى، وتحول إلى تعبير سيئ السمعة، يستدعى نطقه فى أذهان كثير من الناس معانى الظلم، والقهر، والإكراه على الصمت، والعنصرية، وازدواج المعايير، والانحياز للطغيان والاحتلال. وهى معانى تقع على النقيض تماما من معناه الأصلى الأخلاقى النبيل.
يقدم التلاعب بتعبير «معاداة السامية» والاستغلال السياسى له مثالا مروعا لتدمير الكلمات، وتحويلها من دائرة الخير إلى دائرة الشر. ولا ينتج عن ذلك تشوه التواصل بين البشر فحسب، بل يتجاوز إلى تشويه إدراكهم للعالم، وافتقاد الحس الأخلاقى والإنسانى تجاه ما يحدث فيه. لقد ذكر ألبير كامو أن «الخطأ فى تسمية الأشياء يزيد من بؤس العالم». وما نراه من أخطاء شريرة فى استعمال تعبير «معاداة السامية» برهان على أن تدمير معانى الكلمات قد يجلب معه تدمير قيم أساسية لاستمرار عالمنا، مثل التعاطف مع ضحايا الاحتلال، وحرية التعبير، ومقاومة الظلم والطغيان.