تشهد المجتمعات الغربية عمومًا، وأوروبا خصوصًا، انتشارًا لافتًا لجماعات يمينية متطرفة خلال العقدين الماضيين. تُنتج هذه الجماعات خطابات تمارس تمييزًا وعنصرية تجاه الأقليات، والمهاجرين، واللاجئين. وتدافع عن سياسات تنحاز إلى أفكار القومية العنصرية، والاستعلاء الحضارى، وتقاوم الدمج المجتمعى، والتعددية الثقافية. تُسبب هذه الجماعات أزمات سياسية ومجتمعية عدَّة، وتُنتج ظواهر مقلقة مثل كراهية الأجانب، ومعاداة الإسلام، ومعاداة السامية. هذا المقال يناقش الأثر الذى قد تُحدثه فظائع غزة فى انتشار معاداة السامية فى الغرب على وجه الخصوص.
ظاهرة معاداة السامية متأصلة فى المجتمعات الغربية منذ قرون طويلة. ولعل قصة تاجر البندقية للمسرحى الإنجليزى ويليام شكسبير تكشف عن جزء من هذه الظاهرة. فاليهودى (شيلوك) يوصف فى المسرحية بالجشع، والتعطش للدم، وافتقاد القيم والأخلاق والإنسانية، والتلذذ بتعذيب الآخرين. وتظهر هذه الصورة الشائعة لليهود فى أوروبا فى أعمال أخرى كثيرة مثل حكايات كانتربرى لجيفرى تشوسر، التى تحكى قصصًا عن تعمُّد اليهود قتل الأطفال. وأدى شيوع الخطاب العنصرى والممارسات التمييزية ضد اليهود إلى تزايد قلق المجتمعات الأوروبية من وجود اليهود، وظهور ما يُعرف بالمسألة اليهودية. وكان من آثار المسألة اليهودية توافق بعض ساسة أوروبا على إخراج اليهود من بلادهم، ومساعدتهم فى تأسيس وطن لهم خارج أوروبا، ورُشحت بالفعل عدة مناطق للقيام بهذه المهمة، منها أوغندا والأرجنتين، قبل أن يستقر الاختيار على فلسطين.
• • •
تأسست معاداة السامية فى الغرب على خطاب ينسب إلى اليهود القيام بفظائع هائلة مثل قتل الأطفال، والوحشية، والجشع، والتلذذ بتعذيب الآخرين، وافتقاد الإنسانية، على نحو ما رأينا فى صورة تاجر البندقية. وكان لهذه الخطابات المسيئة أثر هائل فى حفز النازيين على ارتكاب جريمة الهولوكوست المأساوية. فراح ضحية الخطابات العنصرية كثير من البشر الأبرياء. ولكن بفضل هزيمة النازية، وهجرات اليهود الضخمة من أوروبا إلى فلسطين، وتنامى الوعى بخطورة الخطابات العنصرية والتمييزية، تراجع الخطاب العنصرى ضد اليهود فى أوروبا. ونجحت جماعات الضغط اليهودية خلال العقود الماضية فى رصد وفضح ومقاومة هذا الخطاب، واستطاعت بفضل القوة الناعمة للسينما والأدب والصحافة والفن ترسيخ خطاب جديد، يبنى صورة إيجابية مغايرة لليهودى، وللديانة اليهودية، تقاوم الصورة النمطية السلبية التى تشكلت عبر التاريخ. وأصبحت معاداة السامية مجرَّمة قانونيًا، وغير مبررة خطابيًا، بفضل هذه الجهود المهمة.
كان التحدى الأهم لهذه الصورة الإيجابية هى الفظائع التى ارتكبها اليهود المتطرفون فى فلسطين فى فترة ما قبل تأسيس الدولة وما بعدها. فقد ارتكبت العصابات اليهودية فى فلسطين مجازر ومذابح هائلة منذ ثلاثينيات القرن الماضى، لعل أشهرها مجزرة دير ياسين والدوايمة عام 1948. ففى مجزرة دير ياسين نسفت العصابات الصهيونية المنازل على رءوس سكانها، وقتلت 254 شخصًا، منهم 25 امرأة حامل بقروا بطونهن وهن أحياء. أما فى مجزرة الدوايمة، فقد قتلت العصابات 500 عربى مسلم، منهم أطفال يُروى أنه جرى تكسير جماجمهم بالعصى داخل مسجد القرية. لكن هذه المذابح كانت ضعيفة التأثير فى الصورة العامة للجماعات اليهودية المتطرفة نتيجة السيطرة على وسائل الإعلام العالمية، وتحالف الغرب مع إسرائيل فى تشويه واقع الاحتلال الإسرائيلى للبلاد العربية. ولم يتغير هذا الحال فى العقود التالية، فقد ارتكبت إسرائيل جرائم مستمرة هائلة بحق الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والمصريين وغيرهم، دون أن يعلم بها الرأى العام العالمى. مثلما حدث فى قصف مدرسة بحر البقر فى مصر، بل إن بعض هذه الجرائم ضد الإنسانية لم يُعرف إلا بعد مرور عقود على وقوعه مثل إحراق أسرى مصريين أحياء، ودفنهم فى مقابر جماعية عام 1967.
• • •
شهد العقدان الماضيان تغيرًا هائلا فى قدرة الأفراد على بث أحداث ووقائع مباشرة فى وسائط تواصل تتسم بقدرة كبيرة على الانتشار. تسبب ذلك فى وصول جزء من الحقائق التى تجرى على أرض الواقع إلى المهتمين. وكان لهذا أثر كبير بخاصة على الوضع فى فلسطين. فقد أصبح باستطاعة الفلسطينيين نقل ما يتعرضون له فى الأراضى المحتلة إلى جمهور يمتد عبر أرجاء العالم. منذ ذلك الوقت، تكشفت الصورة الحقيقية لإسرائيل بوصفها دولة احتلال، تمارس عنصرية، وفصلا عنصريًا، وحصارًا على الفلسطينيين. لكن طوفان الأقصى أحدث تغيرًا جذريًا فى صورة اليهود المتطرفين تثير مخاوف تجدد معاداة السامية من جديد.
على مدى الشهور الست الماضية، شاهد العالم بأسره الآلة العسكرية للدولة اليهودية تبيد شعبًا كاملا. رأى العالم عملية قتل منظم لعشرات الآلاف من الأطفال والنساء، وتجويع وحشى لمليونين من البشر الأبرياء. رأى العالم الدولة اليهودية تقصف المستشفيات، والكنائس، والمساجد، والوكالات الدولية. وتستهدف الصحفيين، والأطباء، والمرضى بالقذائف والصواريخ. شاهد الغربيون صور المختطفين الفلسطينيين وهم مقيدون عرايا فى مشهد يضاهى أقسى مشاهد الهمجية فى جميع العصور. رأى العالم الدولة اليهودية وهى تزيل من وجه الأرض أحياء بأسرها، تدفن سكانها تحت أنقاضها، وشاهدوا بأعينهم آلاف المجازر التى سيخلدها التاريخ بوصفها أكثر الأعمال نذالة وخسة فى العقد الأخير.
إن الفظائع التى يرتكبها جيش الدولة اليهودية تبنى صورة سلبية تكاد تتماثل مع الصورة العنصرية التى روجها الغرب عن اليهود. فالإسرائيليون الذين يبيدون الفلسطينيين ويقتلون أطفالهم، ويجوعونهم، يرسمون صورة إنسان متوحش، متعطش للدم، يفتقد القيم والأخلاق والإنسانية، ويتلذذ بتعذيب الآخرين، ولا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم تحقيقًا لمصالحه، وجشعه. وللأسف الشديد فإن الخلط بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، والادعاء بأن نقد ممارسات الاحتلال الإسرائيلى يندرج ضمن معاداة السامية، قد يؤدى إلى تغذية الخطاب الغربى المتطرف. وقد يؤدى إلى إحياء الخطابات العنصرية التى كانت تبرر كراهية اليهود بالقول إن الصورة النمطية التى شاعت عنهم لقرون لم تكن مزيفة، ولا خادعة، بل هى صورة حقيقية دقيقة، مستشهدين بفظائع غزة الراهنة. وقد يترتب على هذا تعرض يهود أبرياء من الرافضين للجرائم ضد الإنسانية التى يرتكبها جيش الاحتلال لعنصرية الغربيين المتطرفين من جديد. ولهذا يجب دومًا التذكير بالفصل بين اليهودية كدين، والصهيونية كحركة سياسية عنصرية، وبين معادة السامية ورفض جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التى يرتكبها اليهود المتطرفون فى إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى.