خطاب المقاطعة.. الحرب بأدوات أخرى - عماد عبداللطيف - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطاب المقاطعة.. الحرب بأدوات أخرى

نشر فى : الثلاثاء 7 نوفمبر 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 نوفمبر 2023 - 8:20 م

المقاطعة ساحة للحرب بأدوات أخرى. وخطاب المقاطعة هو خطاب حرب بأدوات أخرى. فعادة ما تستعمل الصراعات من أجل التحرر أدوات شديدة التنوع؛ عسكرية وسياسية وفكرية وغيرها. وواحدة من أهم هذه الأدوات هى محاصرة اقتصاد الاحتلال والقوى التى تدعمه، وتوجيه ضربات مؤثرة له، والعمل على شله. وهذا هو بالضبط هدف المقاطعة، ومهمة خطابها.
أقصد بخطاب المقاطعة كل النصوص والصور والتسجيلات التى تتداول لحث جماهير الناس على المقاطعة، وإضفاء مشروعية عليها، وتبرير مسوغاتها، والتأكيد ليس فحسب على فاعليتها، وإنما أيضا على ضرورتها الحاسمة. فى المقابل هناك خطاب مضاد للمقاطعة، تروجه قوى الاحتلال، ومن يدافعون عنها، يسعى إلى التقليل من تأثيرها، وتحريض الجماهير العربية على رفض المقاطعة أو التخلى عنها. وقد عرف العالم العربى أشكالا من خطابات المقاطعة على مدى الثلاثين عاما الأخيرة، نذكر منها، على سبيل المثال، حملة المقاطعة الهائلة فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما تبعها. ومن ثم، فإن لدينا تراثا من خطابات المقاطعة، وما ينْتج ويتداول من نصوص وكلام فى سياق خطاب المقاطعة الراهنة يتشابه فى بعض الأمور مع الخطابات السابقة، ويختلف عنها فى أمور أخرى. وهذا المقال مخصص لأهم ما يتميز به خطاب المقاطعة الراهن، المصاحب لطوفان الأقصى.
• • •
من أهم سمات خطاب المقاطعة الراهن أنه واسع الانتشار؛ لتعدد وسائل تداوله وتوزيعه من ناحية، ولكثرة المنادين به والداعمين له من ناحية أخرى. فكثير ممن يدعمون حق الفلسطينيين فى مقاومة الاحتلال فى الوقت الراهن يتبنون المقاطعة بوصفها فعل مقاومة لا يمكن التفريط فيه. وتتسع دائرة هذه المقاطعة بحسب ما نرى من صور المطاعم الفارغة من الزبائن بشكل ربما يكون غير مسبوق.
• • •
السمة الثانية أنه خطاب ثرى متعدد العلامات والوسائط. فقد رأينا صور وتجليات ثراء لم نره من قبل، فرأينا لافتات وصورا معلقة فى الشوارع تربط استهلاك المنتجات الغربية بقتل الفلسطينيين على نحو مباشر، مثل اللافتة الضخمة المعلقة فى بعض شوارع الكويت، ومكتوب عليها «هل قتلت فلسطينيا اليوم؟» ومرفق بها صورة لمنتج من المنتجات الأمريكية أو البريطانية أو الألمانية أو الإسرائيلية أو داعميها من بعض العرب، ورأينا صورا يعاد فيها رسم الأطعمة والمشروبات فى شكل صواريخ أو قنابل، ورسم أسماء الشركات الداعمة للاحتلال فى شكل مدرعات ودبابات، ورسم المنتجات المقاطعة محاطة بدم الأطفال، وغيرها من وسائل تصوير الجرائم التى تقوم بها الشركات والدول المشتركة فى إبادة الفلسطينيين. كما أن هذا الخطاب يستعمل وسائط غير تقليدية لدعم المقاطعة. فلقد ابتكر المقاطعون برامج خاصة بالمقاطعة مثل (قضيتى) الذى يمكن الشخص من معرفة ما إذا كان منتجا بعينه داخل فى المقاطعة أم لا عن طريق الاطلاع على الباركود الخاص به.
• • •
هناك، أيضا، تغيير لافت شديد الأهمية، وهو أن الحجج التى كانت تتداول سابقا بشأن التهوين من أثر المقاطعة لم يعد لها نفس الانتشار ولا الرواج فى الوقت الراهن. مما يشير إلى وجود قناعة كبيرة بأهمية المقاطعة بوصفها أداة مقاومة. ولعل الشعار الذى ظهر أخيرا ويدمج بين المقاطعة والمقاومة دليل على ذلك.
هناك نقطة تحول أخرى يمكن ملاحظتها فى خطاب المقاومة الراهن، هى أن الدعوة للمقاطعة لم تعد قاصرة على البضائع الإسرائيلية والأمريكية، وإنما امتدت لتشمل كل الدول والشركات التى قدمت دعما غير محدود وغير إنسانى للإبادة الجماعية التى تجرى فى غزة الآن. فعلاوة على أمريكا وإسرائيل تشمل المقاطعة بريطانيا وفرنسا وألمانيا، بل تجاوزت دعوات المقاطعة العربية هذه الدول إلى الدعوة لأى دولة تدعم إسرائيل.
• • •
علاوة على ذلك، فإن خطاب المقاطعة الراهن تجاوز، لأول مرة، الدعوة إلى مقاطعة السلع المادية إلى مقاطعة ثقافية وفكرية للغرب، بعد أن انكشف قناع الغرب، وظهر وجهه الاستعمارى المتوحش. وأظن أن هذا التحول قد يكون أخطر أبعاد المقاطعة الراهنة كلها. لا سيما فيما يتعلق بإدراك أن الغرب لم يتوقف عن سياساته الاستعمارية، وأنه اتخذ من قوته الناعمة أداة رئيسة لفرض استعمار جديد. لذا تصاعدت الدعوات للتوقف عن تدريس الفكر الغربى الذى يزيف واقع الممارسة الغربية فى العالم، كما ظهرت دعوات لمقاطعة التعليم الغربى قبل الجامعى، وإلى التوقف عن استعمال اللغات الغربية فى التعليم فى المراحل الابتدائية والإعدادية.
وأخيرا فإن خطاب المقاومة الراهن يستعمل على نطاق واسع حججا محلية للقيام بفعل عروبى قومى، هى حجة دعم المنتجات المحلية. فقد ترافقت الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية مع دعوة إلى استهلاك البضائع المحلية. وجرى تداول الكثير من الرسائل والصور والتسجيلات الصوتية التى تورد أسماء المنتجات المحلية البديلة للمنتجات الغربية، وتذكر مزاياها. وفى ظل معاناة اقتصاد بعض الدول العربية من وطأة فاتورة الاستيراد فإن الدعوة إلى المقاطعة يمكن أن تكون نقطة تحول فى سلوكيات الشراء على مستوى الدولة، وهو ما يدعم بقوة الاقتصادات الوطنية العربية.
• • •
يكشف خطاب المقاطعة فى العالم العربى الآن أن أغلبية العرب يدركون المقاطعة على أنها شكل من أشكال المقاومة الشعبية للاحتلال؛ فإن لم يستطع المرء أن يقاوم الاحتلال على الأرض فباستطاعته أن ينقل ميدان المقاومة إلى البيت، والسوق، والشارع، وكل مكان يجرى فيه تبادل اقتصادى. فالاقتصاد فاعل فى كل ما يتخذ من إجراءات. ومقاطعة بضائع الاحتلال وداعميه يصبح واجبا إنسانيا وأخلاقيا ووطنيا، وأداة أساسية لمقاومة الإبادة الجماعية التى يقوم بها الاحتلال.

أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب

عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب
التعليقات