عبر ظلمات ثلاث، تلبدت سماء الأزمة الأوكرانية بغيوم المهاترات النووية. أما الظلمة الأولى، فتجلت فى تعاظم المخاوف الدولية من مخاطر التسرب الإشعاعى جراء احتدام وطيس العمليات الحربية غير بعيد عن المنشآت النووية الأوكرانية، التى أنهكها التقادم، والافتقار إلى متطلبات الأمان النووى. ومن خلال هيمنتها على محطة تشيرنوبل النووية، ذات الموقع الاستراتيجى الحيوى، تبتغى روسيا تمكين الجناح الغربى لقواتها من تطويق العاصمة الأوكرانية، والتحكم فى محطة الطاقة، التى تزود مناطق بأوكرانيا، وبيلاروسيا وغرب روسيا بالطاقة الكهربائية. وعلى أثر إحكام القوات الروسية قبضتها على محطة زاباروجيا، التى تعد أكبر منشأة للطاقة النووية فى أوروبا، عقدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، اجتماعا استثنائيا لبحث تداعيات الاضطرابات النووية المصاحبة للمواجهات العسكرية، على أنظمة السلامة والأمن والضمانات.
وفى نزوع كييف نحو إحياء ترسانتها النووية البائدة، تراءت الظلمة الثانية. ففيما اعتبرته موسكو ابتزازا سافرا للمجتمع الدولى، هدد الرئيس الأوكرانى، خلال مؤتمر ميونخ الأمنى الأخير، بمراجعة بلاده «مذكرة بودابست» للعام 1994، التى أبرمتها مع كل من بريطانيا، والولايات المتحدة، وروسيا، لإلزام الأخيرة باحترام وحدة أراضى أوكرانيا واستقلاليتها، مقابل تخليها عن أسلحتها النووية السوفييتية، إن بتفكيكها أو تسليمها لموسكو، ما لم تلتئم الدول الأربع فى قمة تعتمد ضمانات أمنية موثوقة لكييف.
بدورها، أكدت موسكو أنها لن تسمح للأوكرانيين بامتلاك سلاح نووى يهدد أمنها القومى. وحذر بوتين من مساعى أوكرانيا لاستعادة ترسانتها النووية، مستغلة التجهيزات والمعرفة والتقنية، التى ورثتها عن الحقبة السوفييتية، بما يخولها إنتاج قنابل نووية، يمكن تحميلها على صواريخها الباليستية، التى يتخطى مداها 500 كيلومتر. وخلال حملتها بأوكرانيا، بررت القوات الروسية سيطرتها على المقدرات النووية، التى تضم أربع محطات نووية ومنشآت للنفايات، بحرمان الجيش الأوكرانى من استخدام مخزونات الوقود النووى لتصنيع «قنابل نووية قذرة».
أما ثالث الظلمات، فتمثلت فى انبعاث الهلع العالمى من شبح الحرب النووية. فبموازاة إلحاح موسكو فى إزالة الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا، وعجز المفاوضات عن نزع فتيل الصدام الروسى الأوكرانى، وتنامى المخاوف من نجاح الدعم الغربى الهائل والمتواصل لأوكرانيا، فى إفشال الهجوم الروسى ضدها، لتغدو شوكة أطلسية فى خاصرة موسكو إلى الأبد، تتفاقم احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، ربما تتدحرج إلى مواجهة نووية، ولو بطريق الخطأ، أو عبر قنابل تكتيكية.
ففى سابقة هى الأولى منذ حرب أكتوبر 1973، استبق الرئيس الروسى غزو أوكرانيا باستحضار سرديته النووية غير مرة. ففى 18 فبراير الماضى، أشرف على تدريبات لقوات الردع النووى الاستراتيجى، تشمل إطلاق صواريخ باليستية، وكروز، القادرة على حمل رءوس نووية، وصواريخ «كينجال»، التى تفوق سرعة الصوت، و«كاليبر»، و«تيسركون» الفرط صوتية. وقبيل إطلاق حملته العسكرية، أدخل بوتين تعديلات على استراتيجية الردع النووى الروسية، لتسمح باستخدام السلاح النووى للتصدى لعدوان يهدد وجود الدولة، كأن يسفر انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وشروعها فى استعادة القرم عنوة، عن صدام روسى ــ أطلسى. وفى رد منه على تحذيره الغرب بامتلاك موسكو أضخم ترسانة نووية على الأرض، أكد «الناتو» حيازة أعضاء بالحلف كالولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، أسلحة نووية، جاهزة للاستخدام تحت تصرف قيادته. كما تحتفظ واشنطن بنحو 150 رأس نووية من «طرازB61»، فى خمس دول أطلسية هى: بلجيكا، وألمانيا، وهولندا، وإيطاليا، وتركيا.
ما كادت القوات الروسية تطبق حصارها على العاصمة الأوكرانية، حتى وجه بوتين بوضع قوات الردع النووى الاستراتيجى فى أعلى درجات التأهب القتالى الخاصة ليعلن وزير دفاعه نشر قوات الثالوث النووى، البحرية، والبرية، والفضائية، فى مواقع قتالية متقدمة، وانخراط مراكز التحكم التابعة لقوات الصواريخ الاستراتيجية، والأسطول الشمالى، وأسطول المحيط الهادئ، وقيادة الطيران بعيد المدى، فى مناوبات قتالية بطواقم معززة. فيما تم إخراج الصاروخ «توبول إم»، العابر للقارات، والمعروف بـ«الشيطان الشاب»، وتحميله على عربات إطلاق متجهة غرب البلاد.
ووسط تبادل للاتهامات باستدعاء مأساة نووية، حذر وزير الخارجية الروسى من حرب عالمية ثالثة «نووية ومدمرة»، حمل الناتو وأوكرانيا مسئولية تأجيجها. وتزامنا مع إجراء غواصات روسية نووية مناورات ببحر بارنتس، وتحريك منصات إطلاق صواريخ باليستية بمنطقة سيبيريا، شددت واشنطن على جهوزية ومرونة نظام القيادة والسيطرة النووى الأمريكى. لكن البنتاجون حرص على خفض التصعيد، من خلال العدول عن وضع المنظومة النووية فى حالة تأهب، وإرجائه تجربة كانت مقررة سلفا لإطلاق الصاروخ «مينيتمان 3» الباليستى العابر للقارات.
أرجع بوتين قراره برفع جهوزية القوات النووية الروسية، إلى الحرب الاقتصادية التى يشنها الغرب ضد بلاده، عبر العقوبات القاسية والمتنوعة وغير القانونية. فضلا عن إمطار الحلف الأطلسى روسيا بسيل من الإهانات والتصريحات العدوانية. غير أن هكذا مناكفات تبقى دون مستوى التهديد الاستراتيجى الذى يبرر التلويح بالخيار النووى. ومن ثم، لا يرى خبراء الأمر سوى محض استعراض سياسى روسى، خصوصا مع الفارق الاستراتيجى ما بين وضع الاستعداد لنشر الأسلحة النووية، الذى وجه به بوتين، ولم يتحقق، وحالة التأهب الفعلى لإطلاقها. ولا تبدو العملية العسكرية الخاصة فى أوكرانيا بحاجة لمثل هذا المستوى من التصعيد، سيما إذا تسنى للتفوق العسكرى التقليدى الروسى حسم الأمور لمصلحته، عبر تحقيق السيادة الجوية فى سماء الخصم، وشل أنظمة قيادته وسيطرته، وتقويض دفاعاته الجوية، وتحييد قواته الجوية والبحرية.
منذ امتلاك الاتحاد السوفييتى للقنبلة النووية عام 1949، ومشاركته واشنطن ذلك «المجد المخيف»، ظلت معادلة «امتناع استخدامها تجنبا للتدمير المتبادل المؤكد» أساسا للواقع النووى بين الدول المالكة لما يُعرف «بسلاح نهاية الإنسانية». فلقد استقر بخلدها أن «الاشتباك النووى» فيما بينها سيؤدى، لا محالة، إلى دمارها جميعا. ومن ثم، أمسى السلاح النووى أداة فاعلة للردع والابتزاز الاستراتيجيين. وخلال قمتهما بجنيف منتصف العام الماضى، جدد بوتين وبايدن التزامهما بتفاهمات ومعاهدات ضبط التسلح الاستراتيجى، وحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل. وما برحت العقيدة العسكرية الروسية تؤثر الحكمة فى استخدام تلك الأسلحة الفتاكة. ففى حين أبدى اجتماع القيادات السوفييتية عام 1959، تفهما للعواقب الوخيمة لهكذا تهور، تشكك الاستراتيجية النووية الروسية فى سردية الضربة النووية الاستباقية القاضية والمجهضة لقدرة العدو على الرد بضربة انتقامية ساحقة. ولطالما اقتنع، خروتشوف، بمشاطرة واشنطن له ذلك التصور، حسبما تراءى له فى تبنى وزير الخارجية الأمريكى، حينئذ، فوستردالاس، لمبدأ «على شفا الحرب»، الذى تمخض عن سياسة «الخداع النووى».
من هذا المنطلق، جاء شروع السوفييت فى نشر صواريخهم النووية متوسطة وطويلة المدى فى كوبا عام 1962، ردا على قيام واشنطن، قبلها ببضع سنين، بنشر صواريخها النووية فى ألمانيا وتركيا، بمحازاة التخوم الروسية. ثم ما لبثت موسكو أن تراجعت عن تلك الخطوة التصعيدية، وقتئذ، بمجرد سحب الأمريكيين صواريخهم من القارة العجوز.
ثمة كوابح تقنية قد تقوض إرادة موسكو لجهة استخدام أسلحتها النووية. فلقد أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى تدهور المنظومة النووية الروسية، منذ تفكك الاتحاد السوفييتى، لاسيما نظام C3، الذى يشمل أنظمة القيادة والتحكم والتعاون النووى، إضافة إلى نظام الإنذار المبكر، إذ لم يتبقَ سوى أربعة أقمار اصطناعية فقط من بين أكثر من اثنى عشر كانت تراقب العالم بأجهزة استشعارها. الأمر الذى قد يتسبب فى إرباك منظومة القيادة والتحكم، أو تضليل نظام الإنذار المبكر. وفى عام 1997، حذر وزير الدفاع الروسى، إيجور روديونوف، الرئيس يلتسين، من تلك المخاطر، التى تهدد موثوقية المنظومة النووية الروسية، وتقوض دقة وكفاءة مكوناتها التقنية والصاروخية.
بموازاة مخاطر التسرب الإشعاعى، وجنوح كييف لاستعادة ترسانتها النووية، برأسها تطل ردود الفعل المخيفة للدب الروسى الثائر والجريح. فقد يرى الغرب مناورات بوتين النووية حربا نفسية لابتزاز العالم، أو تصعيدا أهوج وغير مسئول، أو محاولة لتشتيت الانتباه عن تعثر حملته العسكرية، وصلابة المقاومة الأوكرانية. غير أن إحباط الشيخوخة، الناجم عن اهتزاز شعبيته، واشتداد وطأة العزلة الدولية، وتأخر الحسم الخاطف والناجع للعملية الخاصة بأوكرانيا، تزامنا مع تواصل نزيف الخسائر المادية والبشرية، ربما تضطر، القيصر، إلى الاستسلام لنظرية المفكر الاستراتيجى الأمريكى، جوزف شومبيتر، بشأن «التدمير الخلاَق»، غير متورع عن استخدام التاريخ كسلاح سياسى، وفقا لياروزلسكى، آخر رؤساء بولندا الشيوعيين.
فتوسلا منه لبلوغ مآربه المستعصية فى أوكرانيا، توطئة لإطلاق حقبة «نوفو روسيا»، أو «روسيا الجديدة»، أو «أوراسيا الكبرى»، التى يرجو أن تتبوأ مقعدها من قمة النظام العالمى، قد لا يجد، بوتين، بدا من استلهام التجربة الأمريكية المريرة مع اليابان عام 1945، ومن ثم، يفاجئ أوكرانيا والعالم بخيارات تصعيدية نووية انتقامية، أو بالأحرى انتحارية.